Preloader
مقالات
Dark Mode

ملاحظات متفرقة حول تعليم التصميم الغرافيكي

– وَحش

في وسط مدينة عريقة كوزموبولتية ذات عمق تاريخي، يسكن وحش منفوش، ساعات نومه غير منتظمة، لا تتبع جدولًا زمنيًا محددًا، ما يصعِّب التنبؤ بمدة فترات نومه. لكنَّه عندما يصحو، تحدث أشياء سحرية!

يغطي جسد الوحش فروة تشبه دمية الـ(بينياتا)، وشرائط خفيفة الوزنِ مرصوصة بانتظام ومصنوعة من أفكار وتطلعات مزدهرة.

يعكس نمط نوم الوحش مشهد التصميم الغرافيكي في المنطقة؛ فخلال العقد الماضي، تذبذب الاهتمام بفعاليات التصميم، لتقام الأنشطة المتعلقة بالتواصل البصري على تقطُّع. كانت تظهر مرة وتختفي مرات أخرى. أحيانًا، تُطلق عدة مشاريع في الفترة ذاتها. وفي أحيان أخرى، لا تقام أية فعاليات على الإطلاق، حتى يبدو الأمر وكأن مجال التصميم لم يعد متواجدًا.

تمتلئ تلك المساحات الخاوية بالقلق الواقع بين فترات نوم الوحش، وتحد من إمكانية نشوء مبادرات جديدة، لكنها تشجع في الوقت عينه السكان الطموحين للمدن الشبيهة بمدينة الوحش، ممن لديهم فضول تجاه ما يحمله المستقبل من تخطٍ للخوف من المجهول والفشل.

– متفرق

في الآونة الأخيرة شغلتني كلمة «متفرِّق». تستخدم الكلمة عند الإشارة لأفكار متعلقة بموضوعات قد لا تتصل ببعضها البعض، لكنَّها تتشارك في انتمائها لسياق واحد. ويعكس تردد الكلمة المتكرر الوضع العالمي الراهن الذي نجد أنفسنا نعيش فيه، وهو وضع لا نستطيع الفرار منه إلا بشكل مؤقت؛ سواء عن طريق المعوقات الخارجية أو عن طريق استبطان الذات. في اللحظة التي نشعر فيها أنَّ الأمور على وشك الاستقرار يفور كل شيء من جديد، ولا يجدي شيء لتخطي ذلك. لا شيء. نحن نعيش في ضباب من الضوضاء البيضاء عديمة المعنى.

– التصميم الغرافيكي : Graphic Design : Form- und Bildgestaltung : Création Graphique

لطالما تعاملتُ مع مصطلح “Graphic Design” (التصميم الغرافيكي) بوصفه مصطلحًا جامدًا يصف هذا الفرع من فروع مجال التواصل البصري. أجده ذا طابع علمي جاف ورجعيًا بعض الشيء، ولا يبدو لي أنه يشرح المعنى أو يصف المجال جيدًا. أما نظيره الألماني “Form- und Bildgestaltung” (الشكل وتصميم الصور) فهو على النقيض منه، يعكس بدقة العناصر التي تكون المجال؛ أي الشكل وتصميم الصور (التصميم البصري). بينما يركز المصطلح الفرنسي (Création Graphique) على فعل الابتكار. باختصار، بعكس المصطلح الأول، يصف كل من المصطلحَيْن الألماني والفرنسي أهمية العلاقة بين عملية التصميم ومنتَجها النهائي بشكل أكثر عمقًا.

ينطوي التصميم الغرافيكي –كأحد المجالات الفنية– على فكرة تحويل محتوى ما إلى شكل بصري من أجل خدمة غرض محدد، ويتم بث ذلك المحتوى عبر وسيط معين وفقًا لشروط موضوعة مسبقًا. يشبه الأمر استقبال بعض المعطيات، ثم إكسابها معنىً جديدًا وصيغة جديدة، مثل صُنع سوربيه ليمون باستخدام الليمون الذي تمنحنا إياه الطبيعة. إن منهجية عملية التحول هذه تعتمد على السياق الثقافي، وعلى وسيط الإنتاج، وعلى خلفية المتلقي، وعلى اللحظة الزمنية الراهنة، وغيرها من العوامل الأخرى. وقد يكون الغرض من هذه العملية إبلاغ رسالة، أو الإعلان عن فعالية، أو الإدلاء ببيان، أو توجيه المتلقي إلى مسار معين، أو التجريب بشكل حر للجمع بين أفكار معروفة ووسائط غير معتادة من أجل الكشف عن شيء جديد عبر العملية الإبداعية.

– الحركة

نحتاج إلى وكزة، إلى دفعة، إلى التحرر من القيود التي نكبل بها أنفسنا، وأن نصنع مساحة مريحة للمصممين والطلبة والمعلمين ومحبي فنون التصميم يجتمعون فيها وينتجون ويتشاركون فيها الأفكار بلا تحفظات.

وقد تكون هذه فرصة مؤاتية لإحداث تغيير وخلق سياق جديد. إذ من الصعب التفاعل مع سياقٍ عنيف، والصمود فيه لحماية أنفسنا من الاضطراباتِ المحيطةِ بنا. أما هذه الفرصة فستخولنا حتمًا للمضي قُدمًا في محاولاتنا التغييرية.

– استكشاف المجهول

يرجح التواجد الكثيف لصور العلامات التجارية وصيحات الموضة على منصات التواصل الاجتماعي أسلوب حياة جاذب لمواليد الألفية الثانية. التعاون المثير بين كل من شركة (أديداس أوريجينالز) و(ألكساندر وانج) هو أحد الأمثلة على ذلك. يتميز هذا التعاون بانطوائه على خليط من التأثيرات المختلفة؛ فقد تناول المصمم عنصرًا ينتمي إلى الماضي الخاص بالشركة، ألا وهو العلامة التجارية ذات الأشرطة الثلاثة من فترة السبعينيات، واستطاع تغيير الطريقة التي يُنظر بها إلى ذلك العنصر عن طريق قلبه رأسًا على عقب. بهذا الشكل؛ عن طريق استخدام عناصر مألوفة بشكل غير مألوف، أعلنت شركة (أديداس أوريجينالز) عن احتفائها بنمط حياة “جذاب” و”حر” لا يلتزم بالتقاليد الجامدة. تعد هذه العلاقة بين أسلوب الحياة وفن التصميم دافعًا هامًا وراء الاهتمام المتزايد بدراسة التصميم الغرافيكي. ورغم أن الدافع وراء هذا الاهتمام قد يبدو واضحًا، فإن بعض الطلبة يأتون إلى قاعات المحاضرات بتصور مسبق ملخصه أن التصميم الغرافيكي أقرب إلى فن الرسوم المتحركة أو فن الرسم أو حتى التصميم الداخلي. أجد هذا الاهتمام، رغم اختلاط الدوافع المؤدية له، مثيرًا بالإعجاب. إذ يبدو أن لمجال التصميم قوة مغناطيسية تجذب الطلبة رغم عدم وعيهم الكامل بطبيعته. فحين يبدؤون دراستهم دون إلمام كامل بطبيعة ما يدرسونه، فإنَّ ذلك يسمح لهم بالعمل بشكل أكثر انفتاحًا وأقل تقيدًا بالضوابط. وقد تفتح مفاهيمهم المختلطة هذه، في النهاية، أبوابًا جديدة للمعرفة.

– اصطحاب الطلاب في جولة

في صباح يوم اثنين حار في القاهرة، دخلت أستاذة إلى قاعة محاضرات بجامعة في إحدى ضواحي القاهرة الصحراوية، لتجد الطلبة محشورين في المقاعد، تصطدم أذرعهم ببعضها، وهم يحاولون -بشكل غير فعال- تنفيذ رسوم دقيقة على مجموعة من الأسطح الورقية. كان الطلبة يحاولون رسم مجموعة من الدوائر والمستطيلات بالاستعانة بنماذج بلاستيكية، وبإرشاد من شبكة خطوط طولية وعرضية مرسومة مسبقًا على الورقة بقلم رصاص. كان الهواء في القاعة راكدًا وجافًا، وساد شعور ضمني بضرورة حدوث شيء لتغيير المزاج. كان ضروريًا أن يعاد الإمساك بزمام الأمور وتحريرها. وعليه، طلبت الأستاذة من طلابها إحضار خامات معينة للاستخدام في درس الأسبوع المقبل، من دون أن تكشف لهم عن طبيعة النشاط الذين سيقومون به. وطلبت منهم أيضًا إحضار حبر أسود، وأكبر فرش الرسم حجمًا، والكثير والكثير من الأسطح الورقية البيضاء كبيرة الحجم.

في يوم الاثنين التالي، دخلت الأستاذة إلى القاعة لتسمع أصوات خلط الأوراق وتعثر الطلاب قبل استقرارهم في أماكن جلوسهم. مثل عاملي إطفاء حريق في محطاتهم، طلبت الأستاذة من تلاميذها تجهيز مكان عملهم وتحضير الخامات بطريقة تسمح لهم بالوصول إلى الأدوات والعمل بشكل سريع وفعال بمجرد بدء العد التنازلي. ثم أعطتهم بعد ذلك كلمة رئيسية يتوجب عليهم وصفها بصريًا عبر عشرين رسمة تحضيرية يرسمونها على عشرين قطعة من الورق، خلال عشرين دقيقة. ٢٠/٢٠/٢٠!

كان الموضوع المقترح هو «الأمطار»، قطرات مياه تتدفق بدرجات قوة، وبأوزان وسرعات متفاوتة يصعب حصرها. قطرات ندى، أمطار خفيفة، سيول. بدأ الطلبة في العمل. ركز بعضهم على تصوير حركات بطيئة رقيقة، بينما استخدم آخرون ضربات فرشاة عنيفة صاخبة، أو سكبوا شلالات من الحبر لتصطدم بالسطح الورقي. تغطت أرض القاعة بأسطح ورقية ملطخة ببقع الحبر مع إنتهاء كل طالب من تنفيذ أحد الرسوم، فالتقط سطحًا ورقيًا جديدًا وأخذ يفكر في كيفية الحصول على نتائج جديدة بأسرع شكل ممكن. بعد مرور عشرين دقيقة، دق المنبه معلنًا انتهاء التدريب. تنقلت الأستاذة ومعها الطلاب حول القاعة بين الأسطح الورقية الملقاة على الأرض مستغلين أية بقعة خاوية من الرسوم لوضع أقدامهم، وأخذوا يناقشون مواطن التشابه والاختلاف بين النتائج المختلفة التي توصل إليها كل منهم. خيّمت سحابة من الهمهمة على القاعة، أمكن خلالها تمييز بعض الكلمات الرئيسية التي تصف التجربة وتلخصها.

– التجريد وعملية التصميم

حين يتعلق الأمر بإيجاد سياق مناسب للتصميم، يلعب التجريد دورًا بالغ الأهمية؛ فاللجوء إلى التجريد في التدريبات الدراسية كعنصر تعليمي يساعدنا على اكتشاف طرق مناسبة للتواصل البصري دون الاعتماد على المفاهيم والرموز ذات المدلولات الثقافية والاجتماعية والسياسية المتعارف عليها. يساعدنا التجريد على اكتشاف الطرق المعتادة التي نستخدم بها الإشارات للتعبير عن الأفكار. ولكنه بالإضافة إلى ذلك، فهو يساعدنا أيضًا على التوصل إلى طرق جديدة للتعبير تتناسب بشكل أكبر مع تجاربنا المعاصرة، وهي تجارب قد نجاهد في فهمها وتقبلها نتيجة الاضطرابات التي تحدث من حولنا على مستوى العالم. نحن نلجأ إلى التجريد بغرض تبسيط المفاهيم لكي نطلق العنان لأفكارنا، فنجرِّد العناصر إلى أشكالها الأساسية التي تكونها، وننزع منها اللون، ونمضي في رحلة اكتشاف العلاقات بين تلك الأشكال والفراغ المحيط بها.

رغم التناقض بينهما، تسير عملية التجريد غير المعنية بالمادة، والعملية الإنتاجية المعنية بالمادة ذاتها، بشكل متوازٍ. فبالاعتماد على العملية الإبداعية كأداة اكتشاف، نستطيع ابتكار لغة شفهية ومفردات بصرية متطورة من أجل التعبير عن وضعنا المعاصر. قد تعتبر العمليات المتعلقة بالتصميم، والتي تتحكم بها أحيانًا الوسائط التي يستخدمها، بمثابة طرق للتواصل مع مواضيع مجردة بغرض اكتشاف علاقات جديدة محتملة بين كل من الشكل، والموضوع، والخامة أو الوسيط.

– فولفغانغ فاينغارت

أخذ (فولفغانغ فاينغارت) المتعة على محمل الجد. تناول (فاينغارت) أبسط الأفكار، وخاض بها رحلات مدهشة ليصل في النهاية لحلول جديدة تمامًا مبتكرًا لغةً بصريةً خاصة به تتخطى حدود نمط «التصميم السويسري». كان يفعل ذلك وهو محكوم بالقيود التي كانت تفرضها عليه مساحة ورشة طباعة الحروف المتواضعة نسبيًا التي عمل بها في (سكول فور غستالتونغ) بمدينة بازل. وقد قام باكتشافات مؤثرة باستخدام طرق خاصة تميزت بالتلقائية الشديدة، عبر تعديل الأدوات التي كان يستخدمها في ورشة طباعة الحروف. يعد تدريب «حرف M» من الأمثلة الجيدة على محاولاته المدهشة تلك. إذ تناول (فاينغارت) حرف M في حالته العليا بشكليه ثنائي الأبعاد وثلاثي الأبعاد، وقام بالتجريب مستخدمًا إياه بطرق مختلفة؛ فخلط بين أحجام، وسُمك، وأوضاع، وزوايا، ومناظير، وخامات مختلفة باحثًا عن علاقات بصرية بين تلك العناصر عن طريق اختبار أوضاع تكوينية، وتداخلات بين الأشكال؛ ليتوصل في النهاية إلى تنويعات معبرة، ودينامية، ومتنوعة ترتكز على حرف واحد. نحيف / سميك / ليّن / عنيف / منطقي / غير منطقي / مقروء / غير مقروء / عضوي / معماري. تظل منهجية (فاينغارت) التجريبية محلًا للتقدير إلى يومنا هذا.

– وقت أمام الشاشة (أو كيف لا تصبح دكتاتورًا)

قلما يتحقق ما نتوقعه من التدريبات المفروضة على الطلاب خلال وقت محدد. نحن نتوقع من الجيل الحالي أن يتصور مفهوم الزمن كما نتصوره نحن، وهو توقع قد يكون غير منطقي. ربما يستطيع هذا الجيل الجديد الإنجاز بفعالية، والحفاظ على عدم تأثره برنين الهواتف المحمولة المستمرة المنبئة بتلقي بريد إلكتروني جديد أو رسائل الأصدقاء أو العائلة. ربما يجب علينا أن نغير توقعاتنا أثناء إدارة المحاضرات، لنستطيع استخدام تلك العوامل المقاطعة للدرس بشكل بناء؛ وهو شيء لم أستطع بعد أن أتوصل إلى كيفية تطبيقه. باختصار، السؤال هو: كيف يمكن لنا أن نستخدم العوامل المعاصرة لنعيد التفكير في منهجيتنا التعليمية؟

‏كتبت انچي علي هذا المقال لمجلة بين في عددها الأول “بدايات الحوار” عام ٢٠١٨، وتعاونت بين مع باسم يسري لترجمته للعربية.


تم تعديل النص قليلا ليناسب النشر عبر الإنترنت بشكل أفضل.

More Writing

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *