Preloader
ترجماتكتابات نقديةمقالات
تيتوس نيميث
Dark Mode

عن ضبط طول السّطر في النّصّ العربيّ: الجزء الأوّل – نبذة تاريخيّة

هذا هو المنشور الأوّل ضمن سلسلة منشورات حول تنسيق النّصّ العربيّ. يبدأ بتناول بعض التأمّلات الأساسيّة – والّتي نادراً ما يتمّ التّعبير عنها – حول الموضوع الّذي يشكّل البنية التّحتيّة لما سيتمّ مناقشته. ثمّ سينظر المنشور في الإرث التّيبوغرافي لضبط طول السّطر في النّصّ العربيّ من خلال عرض تاريخيّ قصير للغاية. فمن أجل فهم الوضع الحاليّ والمضيّ قدمًا بوعيٍ وعلم، يجب علينا أن نعرف كيف وصلنا إلى الوضع الرّاهن.

سيتناول المنشور الثّاني بعض تطبيقات البرامج والخيارات المتاحة حاليّاً، وسيناقش مناهجها وصفاتها وأوجه قصورها. وبعد الحديث عن التّنسيق النّصيّ الحاليّ للّغة العربيّة، سنقوم بفحص نماذج من ممارسات تاريخيّة من الشّرق الأوسط بمنشور إضافيّ، وذلك بهدف تحديد الشّواهد الّتي قد تساهم في النّهوض بالممارسة الحاليّة.

أسس ضبط طول السّطر في النّصّ العربيّ

ضبط طول السّطر في النّصّ العربيّ، أي ملء سطر من النّصّ بالكلمات من أجل الحصول على طول موحّد لجميع أسطر العمود، يستخدم مفاهيم مختلفة عن تلك المتعارف عليها في النّصّ الّلاتينيّ. نظرًا لأنّ الأحرف العربيّة تتّصل بمعظمها، فإنّ “شرطة واصلة -hyphenation”، أي تقسيم الكلمات في نهاية السّطر إلى جزأين، لا تمارس في العربيّة بشكل عامّ. (هناك بعض الاستثناءات، خاصّة في قواعد الإملاء الأويغوريّة الحديثة الّتي تبنّت تقسيم الكلمات عبر الأسطر في ضبط طول الأسطر للنّصّ الطّباعيّ).(١)

في النّصوص العربيّة، سواء المطبوعة أو المكتوبة بخطّ اليد، يتمّ ملء المساحة المتبقّية من السّطرباستخدام ثلاث تقنيّات أساسيّة معاً:
(1) التّنويع في أشكال الحروف (خصوصاً الاستطالة والحروف البديلة).
(2) التّغييرات في كثافة الّلونيْن الأبيض والأسود.
(3) تعديل الكلمات، بما في ذلك الرّصّ الرّأسيّ للأحرف، وتقليل الحجم، ومدّ السّطر إلى الهوامش.

في سياق التّنسيق الطّباعيّ، فإنّ التقنيّة الأخيرة تعتبر هامشيّة في الأهميّة، حيث أنّ هذا المنشور سيأخذ بعين الاعتبار أوّل تقنيّتين فقط.

لافتة مكتوبة بخطّ اليد لعيادة طبيب جرّاح، نرى فيها مبادئ الاستطالة في بعض أنواع الخطوط العربيّة. من الأعلى إلى الأسفل: خطّ النسخ باستخدام كاف ذات استطالة، خطّ النّستعليق الّذي يستخدم الكشيدة للاستطالة، خطّ الرقعة الّذي لا يستخدم أيّ استطالة بسبب الاختلاط الّذي قد تتسبّب به مع حرف السّين الوسطيّة. دمشق ، سوريا، 2007. تصوير الكاتب.

تعتبر الاستطالة من أبرز التّقنيات المستخدمة في ضبط طول الأسطر في النّصّ العربيّ، والمعروفة بمصطلحات مختلفة ذات استخدام مبهم، مثل الكشيدة، والمدّ، والتّطويل.(٢)
ورغم أنّ الكشيدة هي المصطلح الأكثر استخداماً، إلّا أنّها تفتقر للدّقّة في المعنى. مع ذلك، من بين المؤلّفين المنخرطين في موضوع تنسيق النّصّ العربيّ، يبدو أنّ هناك إجماعاً متزايداً على أنّ كشيدة هي المصطلح المفضّل لاستطالة أجزاء من الحروف، دون دراية بالتّطبيقات التكنولوجيّة.(٣) يقوم هذا المنشور بأخذ الفروقات المدروسة الّتي قام بها توماس مايلو في سياق تقنية الديكوتايب بعين الاعتبار.(٤) وفيها يكون مفهوم الكشيدة مرتبطاً بتطويل الأحرف عن طريق استخدام خطّ مقوّس يشبه ما نراه في المخطوطات العربيّة، وهنا يشار لـ”التّطويل” برمز يونيكود U+0640.(٥) شكل آخر أكثر تخصّصاً للاستطالة هو الأطوال المختلفة داخل الحرف نفسه (مثل: ي،ن). رغم أنّ هذه التّقنيّة تستخدم أيضاً لضبط طول الأسطر في النّصّ (بالإضافة لاستخدامات أخرى) إلّا أنّها محكومة بقواعد أخرى تختلف عن تلك الخاصّة بالكشيدة، وسيتمّ الإشارة إليها هنا بـ “الأحرف ذات الاستطالة”.

على عكس ذلك، فإنّ خطّ المدّ “تطويل”، -ورغم أنّه يُعتبر بشكل عامّ التّقنيّة المعتمدة لتنسيق النّصّ العربيّ-، إلّا أنّه جاء كنتاج لتكنولوجيا الطّباعة، ويجب النّظر إليه بشكل منفصل. سيتمّ مناقشة “التّطويل” بشكل مفصّل أدناه، ولكن سنكتفي بالقول في هذه المرحلة أنّه لا ينبغي اعتباره خاصّيّة متأصّلة في النّصّ العربيّ. من المهمّ أن نشير إلى أنّ استطالة أشكال الحروف لا تعني التّمديد (أي مجرّد تشويه)، إنّما تعني إعادة تشكيل كاملة لشكل الحرف، وتعني أيضاً أنّ بعض الأحرف، بل أجزاء معيّنة منها فقط قد تكون قابلة للاستطالة – وهذا يجب أن يكون في سياقات محدّدة تعتمد على الأسلوب.

مخطوطة عربية توضح أساليب تنسيق متنوّعة لخطّ النّسخ. لاحظ/ي كيف تمّ استخدام أساليب ضبط طول الأسطر في النّص بمهارة: بعيداً عن عن العناوين الفرعيّة الفاصلة بالّلون الأحمر، والّتي من المفترض أن تكون بارزة، فإنّ أسطر النّصّ الرّئيسيّ تظهر بأطوال متساوية دون استطالات واضحة. يمكن ملاحظة الاستطالات عن طريق التّأمل الدّقيق فقط (السّطور 1، 3، 8) ، والأحرف المصفوفة (الأسطر 1 ، 3 ، 13) ، والتّغييرات في كثافة الكلمات. مع كون تلك الأخيرة هي الأسلوب المفضّل للاستطالة في هذه المخطوطة. تقيّ الدّين محمّد بن معروف، علم البنكامات، نابلس، 1701-1800، 27.5 سم في 17.5 سم، ص.85 بإذن من بي إن إف جاليكا: https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/btv1b8406163s/f14.image

من المخطوطات العربيّة إلى طباعة الحروف البارزة

عندما اعتمدت المطابع أسلوب تنسيق الخطوط الطّباعيّة من أجل تجميع النّصوص العربيّة، كان لا بدّ من ملاءمة مبادئ تنسيق النّصّ للوسط الجديد. عند كتابة المخطوطات، كان النّاسخ يستخدم خبرته من أجل تقدير عدد الكلمات الّتي يمكن أن تملأ سطراً ما. سواء أكان يحتاج إلى مساحة أكبر أو أصغر، كان يستطيع تعديل النّسبة بين الحروف، ومساحة الفراغات البيضاء، والتّرتيب الرّأسيّ للأحرف والكلمات، وما إلى ذلك. كان ذلك يتمّ قبل الّلجوء إلى طرق التّنسيق الأكثر وضوحاً: الأحرف ذات الاستطالة والتّطويل. وهكذا، كان لدى النّسّاخين مجموعة من الأدوات من أجل ملاءمة السّطر المكتوب داخل العامود.

لم يتبقّ الكثير من هذه القابليّة للتّطويع في عالم طباعة الحروف. وعلى الرّغم من إمكانيّة تعديل المساحة البيضاء، إلّا أنّها لم تكن بنفس المرونة. كانت زيادة الرقيقة الفاصلة (المالئة) من أجل ملء السّطر أمرًا سهلاً إلى حدّ ما، لكنّ تصغير الفوصلة بين قطع الأحرف البارزة كان يتطلّب جهدًا أكبر نسبيّاً من قبل المسؤول عن تجميع الأحرف مقارنة بالنّاسخ. من ناحية أخرى، لم يكن بالإمكان تعديل أشكال الحروف على الإطلاق، ممّا قلّل بشكل كبير من فرص التّحايل على تنسيق النّصّ. وهكذا، تبقّى للمسؤول عن تجميع الأحرف البارزة ثلاث طرق سريعة لضبط طول الأسطر وتحديد شكل النّصّ:(٦)
(1) زيادة المسافات بين الكلمات.
(2) استخدام أنواع من الأحرف المعدنيّة ذات الاستطالة إذا ما توافرت في الحرف الطّباعيّ، وكانت قابلة للاستعمال في السّطر المحدّد.
أو ( 3) إدخال قطع معدنيّة ذات طابع خاصّ بين الأحرف من أجل محاكاة استطالة أجزاء الحروف – إدخال التّطويل.

على الرّغم من كونه ممكنًا من ناحية تقنيّة، إلّا أنّه لم يكن منطقيّاً من ناحية اقتصاديّة أن يقوم المسؤولون عن تصنيع الأحرف بإنتاج أحرف ذات استطالة عند الحاجة. من حيث المبدأ، كان على المسؤولين عن تركيب الأحرف العمل بالأحرف المتوافرة، واستخدام قطع الأحرف البارزة المختلفة من أجل الوصول لأفضل ترتيب، وبأسرع وقت ممكن. بدلاً من عمل قطع معدنيّة متخصّصة لكل سطر يتمّ تنسيقه، تمّ استخدام تقنيّة الطّباعة التّقليديّة من أجل محاكاة الاستطالة بين الأحرف العربيّة عن طريق شكل حرف بارز متخصّص: التّطويل.(٧) تمّ استخدامه لأوّل مرة من قبل الأوروبييّن العاملين في الطّباعة عندما بدأوا بتصنيع أحرفٍ بارزة لطباعة الّلغة العربيّة في القرن السّادس عشر. بالإمكان رؤية خطوط المدّ مبكراً منذ عام 1516 تقريباً، وقد ظهرت في مجلّد متعدّد الّلغات للأناجيل المنشورة في جنوة. ومنذ ذلك الوقت، أصبح استخدام التّطويل سمة من سمات الطّباعة العربيّة في أوروبا.(٨) كانت أهمية استخدام التّطويل من قبل المسؤولين عن تركيب الأحرف للطّباعة واضحة للغاية. فقد كان هذا الخطّ المستقيم والموحّد يسهّل عملهم بشكل كبير، والّذي كان بالإمكان تكراره حسب الرغبة، وإدراجه بين أيّ حرفين متّصلين. فعلى الأقل، إن كان تجميع أحرف الّلغة العربيّة للطّباعة عمليّة شاقّة، كان ضبط طول السّطر سهلاً.

مثال على الاستعمال المفرط للقطع المعدنيّة (التّطويل) في طباعة الحروف البارزة. من بشارات يسوع المسيح كما كتب مار ماتي واحد من اثني عشرة من تلاميذه، روما: Typographia Medicea, 1591, 137، ١٥٩١، ١٣٧، المكتبة الوطنية النمساوية، 255499-D
http://data.onb.ac.at/rec/AC09709138

ومع ذلك، فإنّ التّنازلات الّتي قدّمتها الطّباعة العربيّة التي تم ضبط طول أسطرها بما يتناسب مع السّطرالأفقيّ ربما لم تكن موضع تقدير من قبل مسؤولي الطّباعة في القرن السّادس عشر.(٩) على الرّغم من أنّ القواعد الأساسيّة للتّطويل كانت واضحة ومشروحة من قبل الباحثين المستشرقين، غالباً ضمن سياق التنسيق الطّباعي (التايبوغرافي) الأوروبيّ، إلّا أنّ القواعد المفصّلة الّتي تحكمها بقيت غامضة للمطابع الأولى للنّصّ العربيّ. بالإمكان رؤية هذا التّناقض بشكل واضح في الكتب الّتي تمّت طباعتها في مطبعة ميديشي أورينتال في روما. وبدعم معتبر من قبل النفوذ السّياسيّ والاقتصاديّ، تمّ اعتبار المجلّدات العربيّة علامات فارقة على الإنجاز العلميّ والفنّيّ.

في ذروة حياته المهنيّة، تمّ تكليف صانع الحروف الفرنسيّ المشهور روبرت جرانجون بصنع أحرف عربيّة بارزة جديدة خصّيصًا لهذه المهمّة، حيث أنتج خمسة خطوط عربيّة بأحجام مختلفة.(١٠) وكان لهذه الخطوط تأثير كبير، حيث تمّ نسخها على نطاق واسع، فقد كانت تعتبر حتّى وقت قريب نموذجاً يحتذى به في صناعة الأحرف البارزة للطّباعة العربيّة.(١١) كانت الأحرف الّتي صنعها روبرت أقرب إلى حدّ ما للخط العربيّ التقليديّ مقارنة بسابقاتها، وكانت تحتوي على أحرف ذات استطالة وعلى تطويلات ربّما صنعها جرانجون بغرض استعمالها لضبط طول الأسطر. ومع ذلك، فقد كانت منشورات ميديشي اورينتال مليئة بالحالات الّتي لجأ فيها المسؤولون عن تجميع الأحرف إلى استعمال التّطويل المستقيم، وحصلوا على نتائج غريبة لكنّها متوقّعة. كانت الأحرف الّتي صنعها جرانجون تتميّز بمظهر حيويّ، مع العديد من المنحنيات والخطوط الدّائريّة، في المقابل، أدّى استخدام التّطويل المستقيم في ضبط طول الأسطر في النّصّ العربيّ إلى إنتاج مظهر خطّيّ هندسيّ للنّصّ لا يمكن العثور عليه في أيّ مكان آخر – باستثناء الهوامش المحيطة بالعمود. أدّى الاستخدام غير المقيّد لهذه القطعة المعدنية (التّطويل) إلى إنتاج كلمات ممدودة إلى حدّ لم يكن دارجاً حينها، وخلق مساحات فارغة لا وظيفة واضحة لها، ممّا زعزع مبدأً مركزيًّا للتّايبوغرافي المخصّص للقراءة: إضفاء الشّكل على المعنى.

الضبط الميكانيكيّ لطول السّطر والتّطويل: صنعا لبعضهما البعض

ظلّ التّطويل مستخدماً على الرّغم من كل أوجه القصور تلك. في الواقع، بدلاً من أن يندثر مع التّقدّم التّكنولوجيّ، يبدو أنّ الميكنة المتزايدة ساهمت في انتشاره بشكل واسع. فضّلت عمليّات التّصنيع الآليّ والصّناعيّ المفاهيم المعياريّة والتّنظيم المنهجيّ. إنّ حجم الخط وترتيب ثخانات (عرض) الأحرف في وحدات قابلة للتّكرار ما هما إلّا عنصريْن اثنيْن من عناصر طباعة الحروف، الّلذيْن قاوما التّوحيد والاتّساق لمئات السّنين، ولكن تمّ توحيدهما بعد أن حلّت العمليّات الميكانيكيّة محلّ التّقنيات اليدويّة بوقت قصير. وجد التّطويل مكاناً مناسباً له في سستمة صناعة وطباعة الحروف، في حين أنّ الطريقة الأساسيّة لضبط طول الأسطر، والمنعكسة في الأحرف ذات الاستطالة -على سبيل المثال-، لم تجد لها هذا المكان.

مع ظهور الآلة الكاتبة في القرن التّاسع عشر، انحدر بشكل غير مسبوق تقسيم الكتابة العربيّة لأحرف متكرّرة. على الرّغم من أنّ مجموعة الأشكال الّتي يمكن تمثيلها بـ 90 مفتاحًا تطلّبت تغييراً جذريًّا لأشكال الحروف، إلّا أنّ التّطويل احتفظ بمكانه في صندوق الأحرف. وهكذا، اكتسب التّطويل مكانة غير مسبوقة. وإلى يومنا هذا – وعلى الرّغم من عدم دقّته التّاريخيّة – إلّا أنّ ضبط طول الأسطر باستخدام التّطويل يرتبط غالباً بالآلة الكاتبة وتبسيطها الجذريّ للكتابة العربيّة.

صورة مقربة للقضبان المعدنية التي تحمل قطع التّطويل على ماكنة طباعة من نوع Olympia SM-8. تصوير الكاتب.

نموذج مطبوع بالآلة الكاتبة باستعمال ماكنة من نوع Olympia SM-8، يوضح وظيفة التّطويل. تصوير الكاتب.

خلال القرن العشرين، احتفظ التّطويل بمكانته رغم التّغيرات التّكنولوجيّة العديدة الّتي شهدها. منذ ظهور أوّل نظام Linotype عربيّ (1911)، إلى أوّل نظام Monotype لتجميع الحروف العربيّة (1939)، وأجهزة التّركيب الضّوئيّ، وترتيب الحروف بمساعدة الكمبيوتر، تمّ إدراج التّطويل في شكل الحرف (الفونت) واستخدامه في التّنسيق الطّباعيّ. عندما تعاونت شركتا Linotype & Machinery and Compugraphic في تطوير أوّل كمبيوتر آليّ لتنسيق الّلغة العربيّة في النّصف الثّانيّ من السّتينات، تمّ ترسيخ دور التّطويل.(١٢) أصبح هرانت غابيان -والّذي شغل في ذلك الوقت منصب ممثّل شركة L&M في مصر والسّودان-، مسؤولاً عن تصميم جداول الاستبدال (substitution tables) الّتي تحكم “اختيارات” التّنسيق الخاصّة بالّلغة العربيّة في الكمبيوتر. نحن نعلم أنّ غابيان كان قد استشار مجموعة من المتخصّصين في هذا المجال، بما في ذلك خطّاطون، ومعلّمون، ومشغّلو Linotype، لبلوغ مهمّته. ومع ذلك، من الصّعب اليوم إعادة بناء العمليّة الدّقيقة والمنهجيّة ذاتها الّتي قادت نحو المواصفات النّاتجة. من المحتمل أنّ صحيفة الأهرام، – والّتي كانت عميلاً لهذا النّظام- ، قد أثّرت بشكل كبير على تصميمه، حيث قامت بملاءمته لاحتياجات طباعة الصّحيفة. قام كمبيوتر JusTape لتنسيق الّلغة العربيّة باعتماد التّطويل كطريقة ضبط طول الأسطر الأساسيّة، وتمّ استبعاد إمكانيّة تعديل المساحة البيضاء واستطالة أشكال الحروف. في الواقع، فإنّ براءة الاختراع الّتي قدّمتها L&M لحماية اختراعها ذكرت مصطلح “كشيدة” ٦٤ مرّة في صفحاتها الاثني عشر.(١٣) على الرّغم من أنّ JusTape قامت بالأساس بميكنة ما كانت تفعله الصّحف في السّتينات، إلّا أنها قامت أيضاً بتقنين هذه الممارسة، وكانت بذلك سباّقة في تأسيس نظام آليّ لضبط طول أسطر النّصّ العربيّ.(١٤)

الصّفحة الأولى من جريدة الأهرام في الفترة بين 1 و 4 و 7 و 8 نوفمبر 1968، يظهر فيها الانتقال من الكتابة اليدويّة إلى الطّباعة الآليّة. في 1 نوفمبر، كُتبت جميع العناوين بخطّ اليد بأسلوب الرّقعة؛ في 4 نوفمبر، تمّت كتابة العنوان الرئيسيّ بأسلوب النّسخ “المطبوع” توقّعًا للتّغيير القادم. بعد ثلاثة أيّام، احتفظ العنوان الرئيسيّ بمظهره المطبعيّ، في حين تمّ تغيير المزيد من العناوين الفرعيّة من خطّ الرّقعة إلى النّسخ. بحلول 8 نوفمبر، تمّ تركيب المعدّات الجديدة من Linotype و Compugraphic واستخدامها لأوّل مرة، مستبدلة بذلك جميع العناوين المكتوبة بخطّ اليد بقطع أحرف بارزة ساخنة. من المحتمل أن يكون هذا العدد من جريدة الأهرام هو أوّل إصدار على الإطلاق طبع باستخدام الطّباعة الآليّة الّتي تحتوي على إدراج تطويل آليّ. صور توضيحيّة من قبل الكاتب، تمّ عملها باستخدام صور من أرشيف الانترنت.https://archive.org/details/AlAhram1968EgyptArabic ، تمّ الدخول إليه في 8 نوفمبر 2019.

التّطويل اليوم

مع مرور الوقت، ومن خلال التّكرار المستمرّ وغير النّقديّ للممارسات السّابقة، حافظ التّطويل على مكانته في التّنسيق الطّباعيّ المعاصر. في الوقت الحاليّ، تمّ تعزيز هذه المكانة من خلال إدراج نقطة ترميزيّة Unicode مستقلّة في الإصدار التّعريفيّ 1.1 لعام 1993. يتمّ تعريف “U+0640 Arabic Tatweel” على أنّه حرف تعديل يمتلك خاصّيّة “الرّبط المشروط”. يذكر الإصدار التّعريفيّ أنّ هذا يختلف عن خاصيّة “الرّبط المزدوج” بأنّ تلك الأحرف من هذه الفئة “ليس لديها القدرة على تغيير شكلها”. وهكذا، وفقًا للإصدار التّعريفيّ الّذي يشفّر (يحوّل إلى رموز) كلّ النّصوص المعاصرة تقريبًا، فإنّ التّطويل هو قاعدة صلبة، يأخذ شكلاً وسلوكاً مماثلين للقطع الحديديّة الّتي استخدمها مؤسّسو الطّباعة الأوروبيّون في القرن السّادس عشر. وبذلك، فإنّ Unicode يمنح المعنى الدّلاليّ – نقطة ترميزيّة – لما يجب أن يكون آليّة جرافيكيّة بحتة، ممّا يظهر بوضوح واحداً من الأخطاء العديدة في الاتّساقات للإصدار التّعريفيّ. في النّهاية، فإنّ العقيدة المركزيّة لـ Unicode هي التّمييز بين الدّلالات والشّكل، بين الأحرف والمحارف. ومع ذلك، نظرًا لأنّها تستمدّ العديد من مبادئها من الإرث الطّباعيّ، فقد دخلت في إطارها المفاهيميّ بعض المنتوجات التّكنولوجيّة، مثل التّطويل.

يظهر التّحيّز التّكنولوجيّ أيضًا في إدراج التّطويل في معظم لوحات المفاتيح العربيّة المعاصرة.(١٥) واحدة من النّتائج غير المقصودة للتّرميز الصّلب (الجامد) للاستطالة بشكل آليّ هو استعمالها من قبل المستخدمين لأهداف لم تصنع لأجلها. على سبيل المثال، فقد شاع بين المستخدمين استعمال مفتاح التّطويل من أجل المباشرة بعمليّة اتّصال الحرف بما يليه. نظرًا لأنّ بعض الخطوط تفشل في إتاحة كتابة الشّكل المنفصل المتوقّع لحرف الهاء، يقوم المستخدمون في كثير من الأحيان بكتابة حرف الهاء متبوعاً بتطويل من أجل الحصول على شكل الهاء في أول الكلمة، بحيث يكون أكثر تشابهًا من ناحية بصريّة مع الشّكل المنفصل المطلوب للحرف، لكنّه متبوع بخط التّطويل المستقيم.

صورة توضيحيّة للاستخدام غير المقصود لرمز التّطويل U + 0640 من أجل المباشرة بعمليّة اتّصال الحرف في الخطوط المنتجة بشكل رديء. من اليمين إلى اليسار: (1) لا يتيح الخطّ الطباعيّ Arial شكل حرف الهاء المنفصلة المستخدمة لاختصار التّاريخ الهجريّ؛ (2) إنّ إدراج مفتاح التّطويل U + 0640 بعد حرف الهاء من أجل المباشرة بالاتّصال يعتبر كحلّ بديل يستخدم بشكل متكرّر، ممّا يؤدّي إلى الحصول على شكل تقريبيّ للهاء المرغوب فيها؛ (3) شكل الحرف المتوقّع كما يظهر في الخطّ الطّباعيّ Adobe Arabic.

تشكّل خاصيّة البحث مشكلة إضافية للاستطالة المرمّزة بشكل صلب. نظرًا لأنّ مفتاح التّطويل يُدرج حرفًا وسط سلسلة من الأحرف، حتّى وإن كان ذلك لأغراض جرافيكيّة فقط، إلا أنّ البحث عن كلمة ما في بعض الأحيان لن يعطينا أيّ نتائج. على الرّغم من وجود الكلمة المستطالة في النّصّ، إلا أنّه لن يتمّ التّعرّف عليها في نتائج البحث إذا بحث المستخدم عنها دون إضافة التّطويل. أي أنّه لا يمكن العثور على كلمة “طويلة” إذا كان النّص يحتوي على استطالة باستخدام مفتاح التّطويل كما هنا: “طويــلة”. يمكن ملاحظة أمثلة على هذه المشكلة في متصفّح Firefox من Mozilla، أو محرّر النّصوص المعتمد من قبل آبل: TextEdit.

وبالتّالي، فإنّنا اليوم أمام وضع غامض. على الرّغم من أنّنا نمتلك قوّة حاسوبيّة كافية يمكنها بسهولة إعادة إنتاج الكتابة العربيّة دون الحاجة للّجوء إلى التّبسيط غير اللّائق، إلّا أنّ استمرار الممارسات القديمة والشّكوك بشأن الاتّساق مع الإصدارات السّابقة يعيق التّقدّم. يعتبر التّطويل مثالًا واضحًا على تأثير الممارسة القديمة -المتجذّرة في التّكنولوجيا الجائرة- والّتي لا تزال تستخدم حتّى يومنا هذا، حيث أنّه يوفرشبيهاً تقريبيًّا فقط لمتطلّب مركزيّ لأبسط أشكال الكتابة العربيّة. في الوقت الّذي قدّمت فيه المعيقات التّكنولوجيّة تفسيراً تاريخيّاً منطقيّاً وكافياً لمثل هذه التّنازلات، إلّا أنّه لا يوجد اليوم أيّ سبب لقبول التّمثيلات غير الّلائقة لأيّ حرف طباعيّ. إذا تخيّلنا للحظة وجود قصور مماثل في تنسيق النّصوص الطّباعيّة اللّاتينيّة – على سبيل المثال قصور في التّمييز بين الأحرف الإفرنجية الكبيرة والصّغيرة – بحيث لا يمكن معالجته بواسطة برامج تنسيق الصّفحات، فإنّ صناعة المجال سوف تسارع في معالجة هذا القصور بكلّ تأكيد.
في المنشور التاّلي، سأقوم باستعراض حالة ضبط طول الأسطر في النّصوص العربيّة في برامج تشغيليّة مختلفة. وسأقوم بمناقشة الخيارات الأكثر انتشاراً لتطبيقات التّصميم المتخصّصة، ومعالجات النّصوص، والمتصفّحات، وسأنظر في نقاط الضّعف والقوة بها.


تصحيحات

ذُكر خطأً في نسخة سابقة من هذا المنشور، والصّادر بتاريخ 15 نوفمبر 2019 السّاعة 09:31، أنّ استخدام التّطويل سيعيق عمليّة البحث في أيّ متصفح، ولكن في الواقع فإنّ هذه المشكلة تظهر فقط بالبرنامج التّشغيلي الّذي يعتمد على محرّك Gecko، والّذي يتمّ استخدامه من قبل متصفّح Mozilla Firefox.


ملاحظات

  1. كان تقسيم الكلمات في نهاية السّطر أمرًا شائعًا في المخطوطات الأولى، لكنّ هذه الممارسة لم تعد صالحة للاستخدام. آدم جاسيك، المخطوطات العربيّة: فادميكوم للقرّاء، لايدن، بوسطن: بريل ، 2009 ، 146.
  2. كلمة كشيدة مشتقّة من الكلمة الفارسيّة: كشيدن، وتعني الرّسم، السّحب، التّمديد، والإطالة.
  3. على سبيل المثال انظر اليعقوبي، محمّد وعزّ الدّين لازرك، “Justify Just or Just Justify” ، مجلة النّشر الإلكترونيّ، المجلّد 13، العدد 1، شتاء 2010 ، http://dx.doi.org/10.3998/3336451.0013.105 ؛ بن عطيّة، محمّد جمال الدّين ومحمّد اليعقوبيّ وعزّ الدّين لازرق، “تنسيق النّصّ العربيّ” ، TUGboat، المجلّد 27، العدد 2 ، وقائع الاجتماع السّنويّ لعام 2006، ص 137 – 146.
  4. ميلو، توماس، تصميم: روح الكتابة العربيّة، غرنوبل: WinSoft ، 2006 ، 23.
  5. يعتبر الإصدار التعريفيّ لـ Unicode أنّ المصطلحيْن مترادفيْن، معايير Unicode، الإصدار 12.1.0، (Mountain View ، CA: The Unicode Consortium ، 2019. ISBN 978-1-936213-25-2) ، http://www.unicode.org/versions/Unicode12.1.0/
  6. كان إغلاق النّموذج مع التّأكد من بقاء جميع القطع المعدنيّة (الأحرف البارزة) في مكانها أثناء الطّباعة، أسهل بكثير إذا ما كان النّصّ مضبوطاً (الأسطر بنفس الطّول)، وليس مختلفاً بأطوال الأسطر. وبالمثل، فقد كان من الأسرع بكثير قصّ قطعة من الورق للحصول على قالب مضبوط الأسطر، وإعادة استخدامه في كلّ صفحة، مقارنةً بنصّ ذو أطوال أسطر مختلفة لا يمكن استخدامها إلّا مرّة واحدة. ساهم كلا الأمرين في انتشار ضبط طول الأسطر بطول واحد في طباعة النّصوص.
  7. ليست لديّ دراية بالمصطلح الذي كان يستخدم لوصف هذه القطعة المعدنية في ماكنات الطباعة العربية الأولى. سأستخدم مصطلح تطويل في هذا المنشور من أجل توحيد المصطلحات.
  8. برزت كتابات Psalterium و Hebræicum و Græcum و Arabum و Chaldæum متعددة اللغات من خلال التعاون بين المستشرق وأسقف نيبيو في كورسيكا، Agostino Giustiniani (1470-1536)، والطّابعة Pietro Paolo Porro.
  9. كما تظهر أيّة مراجعة سريعة، لا يفعل ذلك أيضاً العديد من الممارسين المعاصرين.
  10. للحصول على تحليل شامل لخطوط الّلغة العربيّة في جرانجون، انظر كونيدي، إيمانويلا، “خطوط الّلغة العربيّة في أوروبا والشّرق الأوسط، 1514-1924: تحدّيات في ملاءمة الكتابة العربيّة، من اليدويّة إلى النّموذج المطبوع” ، أطروحة دكتوراة، University of Reading ،المملكة المتّحدة، 2018.
  11. على سبيل المثال انظر ياسين هـ.صفدي، “طباعة العربيّة”، سجّلات مونوتايب 2، سلسلة جديدة (أكتوبر 1981): 4.
  12. لاحظ أنّ نظام L & M استخدم مصطلح “كشيدة”. انظر أيضًا تيتوس نيميث، صناعة الطّباعة العربيّة في عصر الآلة: تأثير التّكنولوجيا على شكل الحرف العربيّ، بوسطن لايدن: بريل ، 2017 ، 183-204. https://doi.org/10.1163/9789004349308
  13. لامبيرتي، سيرجيو. وسائل للتّحكم في ماكنات الطّباعة. براءة اختراع بريطانيّة GB1162180، محفوظة في 24 ديسمبر 1966، وتمّ إصدارها في 20 أغسطس 1969. ربّما تكون براءة الاختراع هذه قد ساهمت في ظهور مصطلح “كشيدة” في المجال: في وثائق غابيان، تمّ استعمال مصطلح “كشيدة” بين علامتيْ اقتباس دائمًا، في حين أنّ مؤلف براءة الاختراع هذه قام بإزالتها، واستخدم مصطلح الكشيدة دون تفسير.
  14. في أواخر السّبعينات، قام جابيان بتطوير نظام تنسيق نصوص آخر لنظام طباعة الأحرف العربيّة الخاصّ بشركة Compugraphic، وذلك عندما حاولت الشّركة دخول سوق الشّرق الأوسط. في ذلك الوقت، قامت الشّركة أيضًا بتطوير بعض الخطوط الطّباعيّة العربيّة الّتي كانت -تماشياً مع كتالوج الخطوط اللّاتينيّة- استنساخًا للتّصاميم التّجاريّة الأكثر نجاحًا حينها. في عام 1988، تمّ شراء شركة Compugraphic من قبل Agfa Gevaert. وقد قام هذا المالك الجديد لاحقًا بترخيص الخطوط الطّباعيّة العربيّة لشركة Compugraphic لصالح شركة Microsoft Corporation، حيث تمّ اعتمادها كالخطوط الطّباعيّة العربيّة المستخدمة لنظام التّشغيل Windows لأكثر من عقد من الزّمان. على الرّغم من أنّ هذا قد يكون مجرّد تخمين، إلّا أنّه يبدو أنّ مايكروسوفت، والّتي لم تمتلك حينها أيّة خبرة في تطوير برامج تنسيق النّصوص العربيّة، قد قامت بالتّطويرعلى نظام التّنسيق الخاصّ بـ Compugraphic. إذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن تتبّع التّسلسل المباشر من نظام التّنسيق الّذي تمّ تطويره لماكينة سبك قطع الطّباعة المعدنيّة الساخنة وصولاً إلى تلك المستخدمة في الأجهزة الرقميّة الحاليّة.
  15. على عكس ذلك، فإنّ أغلب لوحات المفاتيح العربيّة لا تتيح كتابة أحد الأحرف الضّروريّة للتّهجئة الصّحيحة لكلمة الله، وهو حرف الألف الصغيرة المرتفعة، ورمزه U + 0670.
  16. تمّ الاستعانة لترجمة بعض المصطلحات بكتاب “تكنولوجيا الطّباعة” التّابع لمجموعة المعاجم التّكنولوجيّة التخصصيّة، تصنيف: إسماعيل شوقي، ود.علي محمود رشوان، مراجعة: د.م. أنور محمود عبد الواحد. المنشور في ١٩٨١ من قبل German Democratic Republic.

ترجمة: أميمة دجاني و محمود الحسيني

نُشر هذا المقال لأوّل مرّة في المدوّنة الخاصّة بجامعة الريدينچ من قبل تيتوس نيميث. قام المؤلّف بمنح مستودع التّصميم الإذن بإعادة نشر المقال وترجمته.
ترجماتلقاءات
Dark Mode

ثورة للأطفال: إعادة إحياء تجربة دار الفتى العربيّ

في عام ١٩٧٤، تمّ تأسيس “دار الفتى العربيّ” لنشر أدب الأطفال في بيروت. وعلى مدى عقد كامل، كرّست دار الفتى العربيّ -والّتي عمل بها فنّانون ومصمّمون وكتّاب- جهودها من أجل جذب الانتباه إلى القضيّة الفلسطينيّة – من خلال إنتاج بعض من كتب الأطفال المدهشة بصرياً والأكثر تقدميّة في المنطقة. جلست مجلة “بدون” الثّقافيّة لإجراء هذا الحوار مع محيي الدّين الّلباد، أحد مؤسّسي دار النّشر ومديرها الفنّي الأوّل والأكثر تأثيراً، وكذلك مع نوال طرابلسي، وهي خبيرة رائدة في مجال أدب الأطفال وعادات القراءة، والّتي بدأت كرسّامة هاوية، اختارها الّلباد لتعمل معه في صناعة كتب الأطفال.

(١)
الألفابئية الفلسطينيّة
محيي الدّين الّلباد
(٢)
نفطُنا عربيّ!! نصّ ورسم أصليّ لمجلّة حائط
محيي الدّين الّلباد

محيي الدّين اللّباد: أتذكر المرّة الأولى الّتي دخلتُ بها مكاتب دار الفتى. لاحظتُ على الفور مدى فخامة المكتب – سجّاد من الحائط إلى الحائط ، صفّ طويل من الهواتف، قهوة وعصير برتقال طازج-. لقد جئت إلى بيروت مفترضاً أنّ الظروف ستكون صعبة جدّاً. ففي مصر كان لدينا هذه التّخيلات بأنّ كلّ ما يتعلّق بفلسطين يعني تلقائيّاً معاناة. تخيّلت أنّني سأنام على سرير حديديّ مع ستّة أشخاص آخرين في نفس الغرفة. ولكننّي كنت على استعداد تامّ للمعاناة من أجل القضيّة. فقد قمت للتوّ بالعودة من إجازة طويلة في باريس، استثمرت فيها كل مدّخراتي، لكي آتي إلى بيروت وأعمل مع دار نشر جديدة، مرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة.

لقائي الأوّل كان مع نبيل شعث، الّذي كان حينها مدير مركز التّخطيط الفلسطينيّ والمسؤول عن دار النّشر. كما كان عضواً في المجلس الثّوريّ لحركة فتح؛ ولاحقاً، تولّى مناصب مختلفة في منظمة التّحرير الفلسطينيّة والسّلطة الفلسطينيّة. في مكتب شعث، لاحظتُ على الفور كومة من الأوراق المطبوعة بالآلة الكاتبة في زاوية مكتبه. وردّاً على نظرتي الفضوليّة، قال لي إنّها مادّة وافق على نشرها، وشرع في طرح سؤال على أحد مساعديه عن سبب عدم إرسالها إلى المطبعة حتّى الآن. وأفاد موظف آخر بأنّه من الضّروري أوّلاً تصميم وإعداد المخطوطات الأوّليّة. وبالطّبع ، لم يكن هناك مصمّم. وهكذا بدأت رحلتي في دار الفتى.

نوال طرابلسي: لقد كانت دار الفتى العربيّ هي البرنامج الثّقافيّ التّابع لمنظمة التّحرير الفلسطينيّة، رغم أنّه لم يكن هناك أيّ توجيه سياسيّ مباشر لها. كانت دار الفتى العربيّ منارة للإبداع والتقدّميّة، وإن كان هناك بالتأكيد حماس واضح وحقيقيّ للثّورة الفلسطينيّة. لكنّ التّمويل جاء عن طريق منظمة التّحرير الفلسطينيّة.

محيي الدّين الّلباد: في الواقع، هذا ليس صحيحاً. جاء التّمويل من قبل مجموعة من رجال الأعمال. ففي ذلك الوقت، كان شائعاً إنشاء مشاريع من هذا القبيل بتبرّعات خاصّة. فقد تمّ تأسيس الدّار من قِبل أبو عمّار -الاسم الحركيّ لياسر عرفات- بعد أيلول الأسود والطّرد التّعسفيّ للفلسطينييّن إلى لبنان. كما تبرّع طبيب مصريّ ماركسيّ – تمّ سجنه من قبل نظام جمال عبد النّاصر في الخمسينات -، بمبلغ من المال لحركة “فتح” واقترح أن يتمّ استخدامه لتمويل شيء من شأنه أن يؤكّد استمرار الثّورة، وقدرتها على الصّمود على المدى الطّويل عند الضّرورة. في الوقت ذاته، كان يتمّ العمل على صياغة وثيقة مبدأيّة لتعليم الأطفال، وبالتّالي اكتسبت فكرة إطلاق دار نشر لكتب للأطفال الثّناء والتّأييد.

نوال طرابلسي: كنت في العشرين من عمري، وكنت أدرس الفلسفة في الجامعة الفرنسيّة في بيروت، وأمارس الرّسم إلى جانب ذلك كهواية. قمت بعرض بعض أعمالي في معرض بأحد مراكز الثّقافة في المدينة، وكنت محظوظة جدّاً بأنّ الّلباد قد رآها. وعلى الرّغم من أنّهم أبلغوه بأنّني ما زلت طالبة، أصرّ على مقابلتي على أيّ حال. سألني إذا كنت مهتمّة بعمل رسوم لكتب الأطفال. وبصراحة، حتّى ذلك الوقت، لم أكن قد قمت بتنفيذ أيّ رسوم للأطفال من قبل. والأكثر من ذلك، أخبرني أنّ دار النّشر ستكون بشكل أساسيّ عن الأطفال الفلسطينييّن ومن أجلهم، وفي ذلك الوقت، لم يكن لديّ أيّ ارتباط بفلسطين أو بالفلسطينييّن. ولكنّ الل]باد أخبرني ألّا أقلق، وأنّه سيقوم بإرشادي خلال العمل. في الحقيقة، لقد كان سلطويّاً في العمل! أطلقنا عليه فى المكتب اسم “السّيد ميليمتر” بسبب حدّته ودقتّه اللّامتناهية. قمت برسم ما يقارب عشرة كتب. وقابلت فنّانين مثل نذير نابا، كمال بلّاطة، وحلمي التّوني، كلّ هؤلاء العرب الّذين كانوا يقيمون حينها في بيروت كـ”غرباء”. وكطالبة لبنانيّة من جيل السّتينات تتحدّث الفرنسيّة، توسّعت آفاقي نحو الوطن العربيّ بفضل دار الفتى العربيّ. كنت مهتمّة بالبلدان التي جاؤوا منها، أحاديثهم ولوحاتهم، ولكنّني فضّلت البقاء بعيدة عن الأنظار.

محيي الدّين الّلباد: عندما بَدأتُ، لم يكن واضحاً لدينا ما سنقوم به. فلم تكن هناك خطّة للتّسويق أو للتّوزيع. لذلك، قرّرتُ أنّه من الضّروريّ وضع خطّة للتّسويق والتّوزيع إذا ما أردتُ أن تستمرّ دار النّشر بالعمل. وسرعان ما أصبح واضحاً لدينا بأنّه من الضّروري إنشاء عدّة سلاسل مختلفة لأجيال عمريّة متفاوتة، وبأشكال مختلفة. جعلتُ هدفنا الرّسميّ نشر سبعة وستّين كتاباً مع نهاية عامنا الأول. كان عدداً كبيراً إلّا أنّه كان ضروريّاً. كنّا بحاجة إلى وجود كتالوج شامل ومتنوّع لدار النّشر لإثبات نفسها، كما كنّا بحاجة إلى إيجاد منافذ بيع وعرض في العالم العربيّ بحيث تكون على استعداد لحمل كتبنا. وصلتُ إلى الدّار في مايو ١٩٧٤، وكان الهدف سبعة وستّين كتاباً بحلول ديسمبر. لم يكن هدفاً منطقيّاً ولكن وبطريقة ما وبأعجوبة، حقّقنا هدفنا.

نوال طرابلسي: أجل، ولقد تمكّنتم من نشر أعمال أصيلة! في الوقت الّذي انشغلت فيه دور نشر الأطفال القليلة الموجودة حينها بترجمة الكتب المنشورة بالفعل ونسخ رسوماتها. وما كان مثيراً للإعجاب فعلاً قيامكم بنشر نصوص حديثة عن أطفال ذلك العصر، أطفال السّتينات والسّبعينات. أضف لذلك أنّ دار الفتى العربيّ كانت دار نشر عربيّة تضمّ مؤلّفين ورسّامين من كلّ البلدان العربيّة، والّذي كان شيئاً جديداً وتقدّمياً حينها. فلم تكن دار نشر تعكس أذواق ملّاكها فقط، كما هو شائع الآن، وفي الوقت ذاته لم تكن ملكاً لأيّ بلاد. ولأنّها كرّست نفسها للقضيّة الفلسطينيّة، والّتي كانت في ذلك الوقت قضيّة العديد من العرب، فقد كانت مسعىً حقيقياً للوحدة العربيّة، وأعطت جلّ اهتمامها للأطفال. لم تكن كتابة ونشر كتب عالية الجودة للأطفال أمراً متعارفاً عليه/شائعاً حينها – حتّى التفكير في الأطفال كان ثوريّاً !

(٣)
رسم أوّلي أصليّ لغلاف “مائدة القطّ” لـ زكريّا تامر، ١٩٧٥
محيي الدّين الّلباد

محيي الدّين الّلباد: بعد نهاية عامنا الأوّل أجرينا تقييماً داخليّاً أشار إلى الفشل الذّريع في نظامنا الإداريّ والتّوزيعيّ. وكحلّ لذلك، قمتُ باقتراح تقليل حجم العمليّة الإنتاجيّة، والتّركيز فقط على صناعة المحتوى. لم يكن نبيل شعث سعيداً على الإطلاق باقتراحي، لقد أرادنا كياناً كبيراً، كمؤسّسة “أخبار اليوم”، عملاق الصّحف المصرية، ذو المبنى الضّخم المكوّن من تسعة طوابق. أو كإحدى الشّركات الكبيرة لإنتاج الفيديو. ففكّرت: “نحن لا نستطيع حتّى إنتاج كتاب للأطفال من ستّة عشر صفحة وتوزيعه كما ينبغي”. لقد حاول إقناعي بالبقاء، لكنّني قررت الرّحيل إلى مصر بعد السّنة الثّانية واندلاع الحرب الأهليّة. وكان قد قتل في الحرب اثنان من موظّفي المكتب. لكنّني واصلت العمل مع دار الفتى من خلال مشروع بدأته في القاهرة، وهو ورشة العمل العربيّة لكتب الأطفال، وقمنا بإنتاج عدّة كتب معاً.

(٤)
صفحة عنوان من كتاب الأعداد، ١٩٨٨
تمّ نشره من قبل دار الفتى العربيّ والورشة التجريبيّة العربيّة لكتب الأطفال

نوال طرابلسي: بعد رحيل الّلباد، لم يتواصل معي أيّ أحد من دار الفتى. فقد كانا عامين قصيرين ولكنّهما مؤثّرين جداً. لقد كان جليّاً أهمية محيي الدّين اللباد للمشروع. فقد كان ينتقي الفنّانين الّذين يعملون معه، ويرفض أن يُفرض عليه فنّانون فقط لأنّهم فلسطينيّون، أو لأنّهم أصحاب توجّهات سياسيّة معيّنة. أتذكّر أنّني دهشتُ عندما علمت أنّني كنت أتقاضى نفس الأجر الّذي يتقاضاه الرّسامون الآخرون، على الرّغم من أنّني لم أكن أعتبر نفسي محترفة مثلهم. لكن الّلباد أخبرني أنّه يدفع الأجر لـ “العمل/الرسم”، وليس لـ “الاسم” الذي قام برسمه. لقد كانت طريقة جديدة ومهنيّة وعادلة للتّعامل، وكنت فخورة بالعمل في مؤسّسة تعمل وفق هذه القواعد. لقد قام اللباد بإضفاء طابع عربيّ على دار الفتى – حيث حرص على أن لا تكون مجرّد أداة أخرى للدّعاية الموجّهة (بروباغاندا). فقد بحث عن كتّاب وفنّانين من السّودان، والمغرب، واليمن، وكلّ مكان في العالم العربيّ.

(٥)
ملصق “البيت”، تمّ نشره من قبل دار الفتى العربيّ، ١٩٧٩
محيي الدّين الّلباد

محيي الدين اللباد: من أجل ضمان استقلاليّتي، ولمنع الإدارة من التدخّل الكثير فى عملي، تعمّدت القيام بعملي بعيداً عن مكاتبهم وهكذا أبقيت العمليّة برمّتها تحت سيطرتي وحتّى لحظة قيامي بعرض النّتائج النّهائيّة لهم. في ذلك الوقت، جاء كلّ من حجازي وعدلي رزق الله ومحمود فهمي من القاهرة وأقاموا في منزلي – أربعة أسرّة متجاورة – عشنا وعملنا معاً. لقد عملنا بدأب كبير بحيث لم نحظى بفرصة عيش تجربة بيروت الّتي تسمعون عنها، بيروت المتع الّليليّة والطّعام الجيّد. فعندما جئنا نحن المصريّون إلى بيروت في السّبعينات، كان لدينا تأثير أكبر من المتعارف عليه الآن.
أحد الأشياء الّتي أتذكّرها جيّداً، والّتي كنت أقوم بها بلا وعي، كان استخدام كتالوج دار النّشر كفرصة لنشر ما يمكن اعتباره بشكل أو بآخر بيان بصريّ. قمت بجمع رسومات مختلفة ومناظرتهم جنباً إلى جنب من أجل إنتاج غلاف للكتالوج الّذي يمثّل نوع العالم البصريّ الّذي استهوانا حينها. لقد تخلّصنا من الرّسومات من قبيل (ميكي ماوس) و(توم وجيري). فقد كانت الفكرة تتمثّل في تقديم جماليّات “قاسية” جديدة وفي الوقت نفسه قويّة بصريّاً ومتكاملة فنيّاً – لغة بصريّة محليّة ترفض الطّبيعة العاطفيّة والبرجوازيّة للرّسومات الّتي كانت سائدة في ذلك الوقت. ما أردناه هو فئران وكلاب يبدو شكلها مثل تلك الّتي نراها تسير في الشّارع، ورسومات لقطط تدخّن السّجائر. لقد كان هذا ما كنت أبحث عنه، ليس فقط مجموعة رسوم منساقة وراء هدف خلق صور من أجل الدعاية الموجّهة (البروباغاندا) وحسب. وعلى كلّ حال، تمّت الموافقة على كلّ شيء قمت باقتراحه!

(٦)
نموذج أصليّ لغلاف الكتالوج الّذي يضمّ المنشورات الأولى لدار النّشر، تمّ اعتبارها من قبل المدير الفنّي كشكل من أشكال البيان البصريّ

نوال طرابلسي: أتذكّر اجتماعاً خلال الحرب الأهليّة شاركتُ فيه أنا ومحيي الدّين وفيه أبدى بعض الزّملاء رأياً مفاده أنّه بدلاً من رسم القتل والجثث، ينبغي لنا أن نرسم أشياء تدعو للتّفاؤل والأمل. لقد كنت ناقدة لهذا الموقف، فقد كنت أؤمن بأنّنا يجب أن نرسم ما يدور حولنا، ذلك الواقع البشع الّذي كنّا نعيشه. وبحلول هذا الوقت، كنت قد بدأت بالانغماس والتّفاعل مع القضيّة الفلسطينيّة، وكنت اتّفق مع محيي الدّين على أنّ الفنّ ينبغي أن يتجاوز الواقع حتّى يتّسنى للجمهور استيعاب الواقع نفسه. تميّزت تلك الفترة بأكملها بأفكار ثوريّة في كلّ مكان.

محيي الدّين اللّباد: كان ارتباط دار الفتى العربيّ بمنظّمة سياسيّة يعني وجود مواقف غير اعتياديّة في بعض الأحيان. فقد كان يظهر فجأة بين الحين والآخر مجموعة من الأشخاص الّذين لم ألتقيهم من قبل، يقفون ويراقبوننا بينما كنّا نؤدّي عملنا. في مثل هذه المواقف، كنت أحاول التزام الأدب والصّرامة في ذات الوقت. وبعد تبادل التّحيات التقليديّة كنت أعرف من هم، غالباً أشخاص من مركز التّخطيط الفلسطينيّ، وكانت زياراتهم شكلاً من أشكال التّحقيق من أجل معرفة طبيعة العمل الّذي كان يجري في الدّار بالضّبط.

في عام ١٩٧٥، قامت الإمارات بتمويل الحملة الإعلاميّة الّتي رافقت خطاب أبو عمّار التّاريخيّ في الأمم المتّحدة، وفجأة أصبح لدينا تمويل من أجل القيام بحملة ثقافيّة لمرافقة رحلته. وقد تمّ اتّخاذ القرار بترجمة عدد من كتبنا إلى لغات مختلفة من أجل استعراض أنواع الكتب الّتي يطالعها الأطفال الفلسطينيون. لقد كان مجرّد وجود دار نشر للأطفال إنجازاً في حدّ ذاته، ولحسن الحظ فإنّ الكتب الّتي تمّ اختيارها كانت ذات مستوى رفيع من النّاحية الجماليّة، وليست مجرّد دعاية موجّهة (بروباغاندا). ولكنّ المشكلة كانت بأنّ الإدارة لم تستطع في معظم الأحيان التّفرقة بين الدّعاية الموجّهة (بروباغاندا) وبين الفنون. لقد كانت جهودنا دوماً مرتبطة بالدّعاية الموجّهة (بروباغاندا)، لذلك فإنّنا لم نتمكّن أبداً من تحقيق قدرتنا الكاملة.

نوال طرابلسي: قمت مع فنّان آخر بتصميم بطاقة بريديّة للذّكرى العاشرة للثّورة الفلسطينيّة. وتمّ نشر الصّورة أيضاً في صحيفة النّوار، ولكنّها نسبت إلى فتاة فلسطينيّة ذات ١٢ عاماً تدعى نوال عبّود، والّتي لم تكن موجودة من الأساس. على الرّغم من أنّني شعرت بأنّ الفتاة الفلسطينيّة موجودة سرّاً بداخلي، مثل ذاتٍ سرّية، وعلى الرّغم من أنّني كنت سعيدة باختيار عملي واستخدامه من أجل القضيّة الفلسطينيّة – كملصق وكخلفيّة لمسرحيّة أطفال فلسطينييّن- ، إلّا أنّ ذلك كان يعدّ فعل سرقة لا يحترم حقوق الملكيّة للفنّان. لكنّني لم أعقّب بأيّ شيء. لديّ المخطط الأوّلي للرسومات الأصليّة، وبالنّظر إلى الماضي، تبدو لي هذه الرّسومات التوضيحيّة كرسومات أطفال الانتفاضة في أواخر الثّمانينات وأوائل التّسعينات.

(٧)
بطاقة بريديّة من أجل فلسطين (رُسمت في الأصل من أجل لبنان)
نوال طرابلسي

محيي الدّين الّلباد: من المهمّ الإشارة إلى أنّ تجربة العمل بمثل هذا القرب من جهاز سياسيّ أثّرت بشكل إيجابيّ على ممارستي العمليّة، لأنّها أتاحت اندماج كلّ القنوات المختلفة. فقد كنت أعمل كمصمّم، وكرسّام كاريكاتير، وكرسّام رسوم توضيحيّة – وبعد عملي بدار الفتى بدأت باستكشاف إمكانيّة دمج كلّ هذه الخيوط المختلفة. قمت بتصميم غلاف قصّة كان قد كتبها زكرياّ تامر تدعى “مائدة القطّ”، في ذات الوقت كنت أرسم الكثير من الكاريكاتير حول سياسة الانفتاح الاقتصاديّ للسّادات في السّبعينات، فظهر على الغلاف قطّ ذو مظهر شرس يقوم بإغواء طائر. وقمت بإعطاء القطّ علبة من سجائر مارلبورو وزجاجة من الكولا.

(٨)
يسار: كتاب الرّيش الجميل، ١٩٧٧
(٩)
يمين: مائدة القط، غير معرّف
محيي الدّين الّلباد

كانت هذه هي صورة العدوّ: في غاية الأناقة ولكن لديه مخالب، تماماً مثل الغرب. منشوراتنا الأصيلة -رغم أنها رخيصة الثّمن- ، إلّا أنّها فخمة المظهر. شعرت أنّ هذا ليس مناسباً – أن أذهب إلى مخيّم للّاجئين حيث المجاري المفتوحة، وأن أعرض مثل هذا الكتاب ذو المظهر الباهظ الثمن، والّذي كلّف فعليّاً حوالي ٢٥ قرشاً – والّذي كان يعتبر مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت. قمت بعمل دراسة تحليليّة أظهرت أنّه بالإمكان إنتاج كتاب بربع التّكلفة، إذا ما قمنا بالتّخلّص من الغلاف. لكنّ ذلك لم يحدث أبداً. كما بدأت أيضاً مجلّة حائط تستخدم في المساحة العامّة، مع ترك مساحات فارغة للمواطنين من أجل ملئها. قمنا بإنتاج ستّة من تلك المجلّات.

ومن بين التّجارب الرّسميّة الأخرى المبتكرة والمجزية، العمل الذي قمت به لكتاب زكرياّ تامر، والّذي كان مثل مقارنة بين الحصان البرّي الحرّ والحصان المروّض. في ذلك الوقت، شاهدت معرض لوحات للخيول في اليمن للفنّانة ليلى الشوّا. لذلك سألتها إذا ما كانت ترغب برسم هذا الكتاب. وعندما تردّدت، قلت لها أنّنا يمكن أن نعمل على الكتاب معاً. قلت لها: “قومي بتنفيذ اللّوحات بأيّ شكل ترغبين، واتركي لي بعض المساحة لكتابة النّص”. عملنا على الكتاب معاً، وكان جميلاً حقّاً. كنت مهتمّاً دائماً بالبحث عن فنّانين جدد غير معروفين أو غير محترفين، لديهم قوّة ما في أعمالهم.
مثل نوال، كانت ليلى قد تخرّجت للتوّ من الجامعة وكان لديها أسلوب حرّ وعفويّ رائع. ولكننّا نحتاج إلى بعض الوقت لاكتشاف النّاس، وبعض الوقت للعمل معهم. لسوء الحظ، فقد سارت الأمور بشكل متقلّب جدّاً، كما عملنا مع أشخاص لم يستطيعوا تجاوز الجماليّات الّتي كانت سائدة في ذلك الوقت. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الهدف الذي وضعتُه لدار الفتى لإنتاج سبعة وستّين كتاباً بحلول ديسمبر ١٩٧٤ ألزمنا ببعض هذه الخيارات. أحياناً، لا نكون جديرين بأحلامنا الكبيرة، كما أنّ أولئك الذين نتعامل معهم قد لا يرون أحلامنا كما نراها. وربّما لم أكن قادراً على تحقيق المعايير الجماليّة التي وضعتهُا في البيان.

(١٠)
واحدة من سلسلة مجلّات للأطفال، نُشرت كملصقات من قبل دار الفتى العربيّ، ١٩٨٨
محيي الدّين الّلباد

نوال طرابلسي: بالنسبة إليّ، فإنّ تجربتي مع دار الفتى والحرب بعد ذلك وضعتني على الطّريق الّتي أنا عليها الآن. كانت في ذلك الحين جزءاً من نطاق عامّ للحركات الثّوريّة. أنا ابنة ذلك الجيل الّذي كان يحلم بخلق عالم جديد، لبنان جديد كبلد للحريّات والحقوق لجميع مواطنيه، بغضّ النّظرعن الدّين، والجنس، والطبقيّة الاجتماعيّة.

لقد استمرّت الحرب بتدمير كلّ شيء في حياتي، لكنّ عملي في دار الفتى كان البذرة لكلّ ما أفعله الآن. منذ أكثر من عشر سنوات وأنا منغمسة في أدب الأطفال والمكتبات والقراءة العامّة. أنا واحدة من مؤسّسي أوّل الجمعيّات غير الرّبحيّة في لبنان والّتي تركّز في عملها على إنشاء وتطوير المكتبات العامّة. بعد انتهاء الحرب مباشرة، كان رفيق الحريريّ يعيد بناء البلاد بطريقة برجوازيّة، وفي المقابل كانت هناك مجموعة من الأصدقاء والنّاشطين الّذين بدأوا بالعمل على إيجاد بدائل يتمّ من خلالها إعادة بناء هذه البلاد المنكوبة. لذلك قمنا بتركيز جهودنا على الأطفال والمدارس العامّة والمكتبات.

محيي الدّين الّلباد: بعد أن غادرتُ بيروت عام ١٩٧٦، استمرّت دار النّشر بالعمل حتّى الغزو الإسرائيليّ لبيروت عام ١٩٨٢، حيث غادر الاحتلال الاسرائيليّ مع النّزوح الجماعيّ للفلسطينييّن. ثمّ انتقلت الدّار إلى القاهرة، وحينها حدث تغيير كبير. أعتقد أنّ السّياسة أخيراً أصبحت مهيمنة تماماً. وهذا مجرّد تخمين، ولكنّني أعتقد أن الدّار شكّلت قناة سرّيّة للتّواصل بين منظّمة التّحرير الفلسطينيّة والحكومة المصريّة، حيث لم يكن التّواصل بينهما رسميّاً حينها. واصلتُ تصميم بعض الكتب والطّوابع البريديّة من أجلهم، مثل الطّابع البريديّ الأيقونيّ الّذي يحمل اسم “فلسطين عربيّة”. وعندما شاركت إسرائيل للمرّة الأولى والأخيرة في معرض القاهرة للكتاب، وكان جناحها مجاوراً لجناح دار الفتى العربيّ، تطوّعنا لعمل فعاليّات وأنشطة مختلفة من أجل دعم دار النّشر والاحتفال بفلسطين. واكتشفنا في وقت لاحق أنّ منظّمة التّحرير الفلسطينيّة كانت قد خصّصت ميزانيّة لهذه الأنشطة، أتساءل أين ذهبت الأموال حينها. بحلول ذلك الوقت -في منتصف الثّمانينات- كانت الدّار قد انتهت تقريباً، فكلّ عدّة سنوات، قد يتمّ نشر كتاب ما. وأخيراً، تمّ إغلاق الدار بشكل نهائيّ في وقت ما في أوائل التّسعينات، لم يتّصل بنا أحد قطّ ليخبرنا.


مصادر:

يمكنك إيجاد المزيد من أعمال محيي الدّين الّلباد على موقع أرشيف الغلاف العربي
أرشيف رقمي لبعض منشورات دار الفتى هنا
توثيق لسلسلة قوس قزح الخاصّة بالأطفال الّذين تتراوح أعمارهم بين ٣-٦ هنا
مقابلة صوتيّة مع محيي الدّين الّلباد وحسناء رضا، ٢٠١٤ هنا
لشراء كتاب “كشكول الرسم” لمحيي الدّين الّلباد هنا
لشراء كتاب “نظر” لمحيي الدّين الّلباد هنا

ترجمة محمود الحسيني وأميمة دجاني
This interview was conducted by Hassan Khan and was published in BIDOUN, Noise, winter 2010.
This is published with permission from BIDOUN.
Some of the resources are taken from Hadibadi, check them Here
ترجمات
ماسيمو فينيلي
Dark Mode

دعوة للنقد

يرتبط اسم ماسيمو فينيلي (مواليد 1931) حتماً بتعميم الحداثة السويسريّة في الولايات المتّحدة خلال سنوات السّتّينات. في الواقع، إنّ برامجه المميّزة الّتي قام بعملها لصالح: الخطوط الجويّة الأمريكية (American Airlines) و( Knoll International ) و( New York Metropolitan Transportation Authority ) بالإضافة إلى أعمال أخرى، يُنسب إليها الفضل في استخدام خط هلفتكيا( Helvetica ) كالخطّ الطّباعيّ المعتمد بشكل مسبق من قِبل الشّركات الأمريكيّة بحلول عام 1970. ومع ذلك، فقد كان فينيلي -الّذي تدرّب كمهندس معماري- دائم الإعجاب بما اعتبره المستوى الأعلى للخطاب في العمارة، عدا عن الاحترام المهنيّ الّذي بدا أنّ الفكر النّقديّ يولّده. بحلول سنوات الثّمانينات، كان من المستحيل على فينيلي – كمتعاون مستمرّ مع مايكل جريفز وروبرت أ.م. شتيرن – تجاهل صعود “ما بعد الحداثة” وأوجه التّشابه الواضحة بين تقليديّة بناء الصّندوق الزّجاجيّ والقيود المفروضة على الخطوط الطّباعيّة منزوعة السّريف/التّرويس( sans-serif )، الّتي تمّ تنسيقها على شبكة من ثلاثة أعمدة. أتاحت دعوة من والتر هيرديغ لفينيلي لكتابة مقدّمة لطبعة عام ١٩٨٣ – ١٩٨٤ من جرافس السّنوية ( Graphis Annual ) الفرصة لفينيلي للدّعوة إلى اتّباع نهج أكثر صرامة فيما يخصّ انتقاد التّصميم الجرافيكيّ. كان فينيلي سابقًا لأوانه: فقد شهدت السّنوات التّالية نموًّا متسارعًا وتدريجيًّا في الكتابة المدروسة حول التّصميم الجرافيكيّ. — م.ب

لقد ولّد لدينا توجّه سنوات الثّمانينات المثير والمُغري والخطير للغاية رغبةً كبيرة في إعادة تقييم فلسفة مهنتنا وأصولها ومعناها كما نراه اليوم.

هناك حاجة هائلة للبحث التّاريخيّ في جذور مهنتنا، يجب أن نطلق لها العنان. ليس فقط عن حركة الحداثة، بل حتّى ما قبل الثّورة الصّناعيّة. نحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف مدى ملاءمة تصميم ما قبل الثّورة الصّناعيّة. نحن بحاجة إلى فهم دوافع العقول المبدعة الّتي سبقت حركة الحداثة. إنّنا جميعاً من نسل حركة الحداثة ونريد أن نعرف المزيد عن أسلافنا المفكّرين. نحن بحاجة إلى جذورنا، وإلى معرفة من هم روّاد التّغيير، وما الّذي دفعهم إلى فعل ما فعلوه، ومن كان عملاؤهم، وكيف ساهمت علاقتهم بخلق جوّ من الإبداع الّذي أثّر على الآخرين كذلك.
إنّ المعلومات التّاريخيّة واستبطان الذّات والتّفسير مفقودون تمامًا في مهنتنا، وأعتقد أنّنا نشعر بحاجة ملحّة لسدّ هذه الفجوة. إنّ تطوّر نظريّة التّصميم الجرافيكيّ في القرن الحاليّ هو نتيجة طبيعيّة لتطوّر الفنون الأساسيّة. لقد أهان هذا الوضع مهنتنا ثقافيّاً. إنّ العواقب هي خواء وانعزال كامل للنّظريّة وفائض من الصّرعات السّطحيّة العابرة. لقد آن الأوان للتّعبير عن القضايا النّظريّة ومناقشتها من أجل توفير ساحة للصّراع الفكريّ الّذي يجب أن تتشكّل منه بيئتنا البصريّة. لقد حان الوقت للمناقشة واستقصاء القيم وفحص النّظريّات الّتي تشكّل جزءًا من تراثنا، والتّحقّق من صلاحيّتها للتّعبير عن عصرنا. لقد آن أوان الاستماع إلى صوت العقل.

من الممكن أن يكون لظهور علم الدّلالات والرّموز تأثير عميق على مهنتنا. سيقوم هذا العلم بتأسيس مفهوم غير مسبوق للوعي والتّعبير. إنّ التّاثيرات النّظريّة للتّقنّيات الجديدة على الطّريقة الّتي نرى ونعبّر بها عن الكلمة المطبوعة والصّورة الجرافيكيّة هي مجال هائل من الاستكشاف والبحث الّذي لم يتمّ التّطرّق إليه من قبل . مرّة أخرى، إنّ نقص وجود المنشورات المهنيّة الملائمة يحرمنا جميعًا من التّحفيز الّذي يمكن أن ينبثق عن الحوار.

لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أنّه إلى جانب الافتقار إلى التّاريخ والنّظريّة، فإنّ النّقد مفقود تمامًا. إنّ الوظيفة الرّئيسيّة للنّقد لا تتمثّل بتقديم مراجعات تملّقيّة أو تشويهيّة، بل تتمثّل في تقديم تفسيرات إبداعيّة للعمل أو للفترة الزّمنيّة أو للنّظريّة الّتي يتمّ تحليلها. من بين تلك التّفسيرات الإبداعيّة ينبثق ضوء جديد يُلقى على الأشياء، ونبدأ بالانتباه إلى معانٍ وانعكاساتٍ جديدة.

إنّ النّقد يُتيح للمصمّمين إمكانية القراءة متعدّدة الطّبقات لأعمال المصمّمين الآخرين، أو يمنحهم الفرصة للتّركيز على معنى حركات تعبيريّة معيّنة. إنّ النّقد سيمنع -إلى حدّ كبير- الانتشار السّطحيّ للصّرعات والبدع، أو في كلّ الأحوال سيوفّر أرضيّة لتقييمها في السّياق الملائم. لن يكون التّصميم الجرافيكيّ مهنة حتّى يكون لدينا نقد.

إنّ الحاجة إلى إعادة التّقييم تدعونا للتّوثيق. نحن متعطّشون للتّوثيق المدروس الّذي يمكن أن يزوّدنا بمصادر للمعلومات من أجل إعادة تقييم الفترات الزّمنيّة أو الأشخاص أو الأحداث. إنّ منشورات التّصميم الجرافيكيّ حول العالم توفّر مصدرًا جيّدًا للتّوثيق، رغم أنّها تقوم بذلك بطريقة غير متفاعلة ومنفصلة في أغلب الأحيان.
إنّنا بحاجة إلى استنهاض الوعي بأنّ كلّ إيماءة في الحاضر تعتبر وثيقة للمستقبل، وأنّ حاضرنا سيُقاس فقط بهذه الإيماءات.

نُشر لأوّل مرّة في Graphis Annual 83/84 مأخوذ من: البحث عن قرب 3 • كتابات كلاسيكيّة عن تصميم الجرافيك حرّره مايكل بيروت، جيسيكا هيلفاند، ستيفن هيلر، ريك بوينور
ترجمة أميمة دجاني و محمود الحسيني.
حقوق النّشر 1999 Allworth Press