Preloader
لقاءات
هاني محفوظ
Dark Mode

مقابلة المكتب: هاني محفوظ – ٥/١٢

“المكتب” هي سلسلة مقابلات متعمقة مع مصممين ومنتجين عرب. يبدأ الموسم الأول مع مبدعين مصريين. تتخذ المقابلات “المكتب” كعدسة مكبرة للنظر في ممارسات هؤلاء الأشخاص للتصميم. اسم”المكتب” هو اسم مأخوذ من فيلم مارك جاردنر الذي يحمل نفس الاسم كعنوان الفيلم؛ وهو فيلم وثائقي قصير يتمحور حول محاولة استكشاف العلاقة بين العاملين ومكتبهم(مساحة العمل) وكيف ينعكس هذا المكان في شخصية كل منهم، والعكس. يهتم مستودع التصميم باستكشاف ذات العلاقة ولكن مع رغبة متزايدة بتوثيق هذه المقابلات في اللحظة الراهنة، وبالتالي محاولة تسجيل لحظة زمنية لأجيال المستقبل كي يجدوا إرثاً عن هذه الفترة عندما ينظرون من مستقبلنا لماضيهم. تستمر المقابلات على مدار العام، مع مصمم/منتج واحد كل شهر. ستكون مقابلة هذا الشهر مع الفنان والمصمم المصري: هاني محفوظ.


هاني محفوظ، الأستوديو، ٢٠٢٢

س: تفضل بتقديم نفسك، الاسم، السن، الجنسية، والمهنة؟

ج:

الاسم هاني محفوظ
السن ٥٧
الجنسية مصري
المهنة مصمم/ وفنان

أعمل كمصمم جرافيك منذ عام ١٩٩٠. أنشأت الاستوديو الخاص بي عام ١٩٩٧ تحت اسم تصميمات هاني محفوظ(Hani mahfouz Designs (hmd

س: تكون أعمالك في أغلب الأحيان تقاطعاً بين الفن والتصميم، كيف تتصالح مع العلاقة بين الاثنين؟

اليمين: رسم لمعرض، هاني محفوظ، ١٩٩٤ اليسار: ملصق تصميم ورسم هاني محفوظ، ١٩٩٤

ج:

تخرجت من كلية الفنون الجميلة عام ١٩٨٨ من قسم العمارة الداخلية (ديكور)، وفي تلك الفترة لم تكن الفواصل بين الفن والتصميم واضحة، أو على الأقل في ذهني. خاصة أن الشق الفني كان يميز كليات الفنون في تلك الفترة أكثر من الشق التقني، وهذا يختلف عما أصبح دارجاً في ما بعد في التخصصات التي تندرج ضمن الفن والتصميم (art and design). بمعنى أن المناهج نفسها لم تكن واضحة الهوية في تلك الفترة. على سبيل المثال، كنا ندرس تصميم ورسم ولاندسكيب (رسم ميداني) وكانت للمواد الثلاثة نفس الأهمية. استمر هذا الخلط معي فترة طويلة، وقد ساعد على ذلك عدم وجود تعريفات واضحة وعدم تعرضي لما يتيح لي الفصل بينهم بوضوح. فثورة التكنولوجيا والانترنت لم تبدأ في مصر إلا بعد عام ١٩٩٥ و على استحياء. من خلال ممارستي المستمرة بالعمل كمصمم جرافيك، والتي يُعزى إليها إتقاني لاستغلال أدوات رقمية مستحدثة لإنتاج أعمالي الفنية، أستطيع القول أنه لولا إتاحة تلك الأدوات لما كان لنا أن نعترف اليوم بالتصميم كفن، وهو ما كان يُعتبر في السابق مجرد حرفة! قد يخالفني الكثيرون الرأي، على الأخص من متقني هذه الحرفة، ولكنني أعتقد أن لدي الحُجة لتعزيزه.

ورغم عدم وضوح التعريف في ذهني إلا أنني كنت ولازلت أفصل بين الاثنين، وأتعامل مع التصميم كحرفة ليس لها علاقة بالفن بشكل كبير، -أو بمعنى أدق- إن ما أنتجه يومياً هو عمل يومي أعتمد فيه على هويتي الفنية، ولكنه ليس فناً صريحاً، إنّما يتلامسان فقط، وأنا أحوم حول هذا التلامس طوال الوقت.

منتجات من تصميم هاني محفوظ
صورة شخصية، هاني محفوظ، ١٩٨٦ تقريباً

كنت أصمم في كثير من الأحيان تصاميم تنتقل من هذا الجانب إلى الجانب الآخر وبالعكس. كنت أبحث طوال الوقت عن مخرج من التصميم للفن وكأن العمل بالتصميم عقاب أقضيه، وكأنني أجهز نفسي ليوم سيكون لدي فيه رفاهية الفصل بينهما، بحيث أستطيع أن أحيا وأعيش من الفن دون أن أضطر لعمل بالتصميم القائم على طلبات محددة لابد أن يحققها أو يراعيها. وهذه الفكرة غالبا هي نفسها ما دفعتني لمحاولة صنع منتج خاص بي في ٢٠٠٢، وقد كان عبارة عن منتجات ورقية جميع أغلفتها قائمة على الرسم بشكل أساسي، فعندما راقبت العالم من حولي لم أجد اسماً بزغ في عالم التصميم الجرافيكي كما هو حاصل في عالم الأزياء أو العمارة أو حتى التصميم الصناعي، ولكنني وجدت أسماء مثل هولمارك (Hallmark) أو مولسكين(Moleskine). هذه الفرضية ساعدتني جدا أن أحدد وجهتي بوضوح: كان لابد لي أن أكون منتجاً وليس فناناً في هذا العالم. ثم في عام ٢٠٠٨، بدأت العلاقة بين الاثنين تتضح أو تتصالح في ذهني، وهو وقت متأخر جداً -أو متأخر نسبياً-، أي بعد عشرين عاماً من التخرج، حيث شاركت في معرض جماعي لمجموعة من مصممي الجرافيك تحت اسم كسر الملل، كنت حينها أكبر المشتركين سناً وأقلهم فهماً، لكنّ التجربة كانت فاصلة في حياتي المهنية والفنية.

رسوم أولية لتجربة صيغة الملصقات لمعرض كسر الملل، ٢٠٠٨
يمين: كعب المشبك ينقر أعضائه، معرض كسر الملل، ٢٠٠٨ يسار: ملصق معرض كسر الملل، ٢٠٠٨
من اليسار لليمين: جورج عزمي، أحمد فوله، هاني محفوظ، محمود حمدي، إنجي علي، إبراهيم إسلام. معرض كسر الملل، ٢٠٠٨

س: ما سبب رغبتك باتخاذ التصميم كمجال عملك الرئيسي؟

ج:

التخرج من قسم الديكور في المقام الأول، وحبي للتصميم بشكل ما، ثم الصدفة. فرغم المقدمة الطويلة السابقة إلا أنني كنت أثناء فترة الدراسة أعتقد أنني سأكون مصمم ديكور وليس مصمم جرافيك، ولكنني وبالصدفة البحتة وجدت إعلاناً في أحد الجرائد اليومية لوظيفة مصمم جرافيك في أحد الشركات، وكانت هذه الإعلانات هي الأداة الوحيدة تقريبا للبحث عن عمل في تلك الفترة، فقررت أن أخوض تجربة المقابلات الشخصية وأن أتقدم للوظيفة، وكانت النتيجة أنني بدأت بالعمل بها في نفس اليوم.
أعتقد أنني شخص لم يأخذ الكثير من القرارات في حياته، أنا كنت فقط أختار من بين الاختيارات المتاحة.

س: هل من الممكن أن تشرح لنا المراحل التي تمر بها عند التصميم؟ اختر مشروعك المفضل واشرح لنا المراحل منذ البداية وحتى النهاية. ما هي التحديات والدروس المستفادة؟

ج:

أعمل منذ بداية التسعينيات في مجال الجرافيك، وبالتالي فقد كنت جزءاً من مشاريع عديدة جدا لعلامات تجارية وشركات ونشاطات متعددة، ولكن عند محاولة انتقاء إحداهما كعمل مفضل فغالباً ما أفضل مشروعاً يجمع بين نصفي عقلي: الفن والجرافيك 365 days of abstract

اليمين: رسمة بتاريخ ٦.١.٢٠٢٢ هاني محفوظ، ٢٠٢٢ اليسار:رسمة بتاريخ ١٩.٥.٢٠٢٢ ، ٢٠٢٢

بدأت هذا المشروع في أوائل التسعينيات برسوم نفذتها على مساحات صغيرة، وقد عُرض في معرض فردي في أتيليه القاهرة عام ١٩٩٤. انخرطت بعدها في أعمال أخرى، إلى أن عدت في عام ٢٠١٢ لإنتاج رسوم منفذّة رقميًا، من نفس المجموعة أو تحمل نفس الهوية، وذلك بعد أن أعدت تعريفي لفن الجرافيك في عام ٢٠٠٨، فكان هذا المشروع هو نقطة التصالح بين تعريفي القديم والجديد، وقد أطلقت عليه ” ٣٦٥ يوماً من التجريد

يمين: جريء وأسود، هاني محفوظ، حالياً متاح على NFT يسار: من مشروع “من ٩ الى ٥ (الزهور)”، هاني محفوظ، حالياً متاح على NFT

أحب التجريد abstract جداً. لم أكن واعياً لمصدر هذا الحب، كنت أتخيل أن حبي للتجريد هو هروب من الرسم الأكاديمي الذي لم ولن أجيده بالشكل المتعارف عليه. ومع مرور الوقت، وفي محاولة الفهم المستمرة لنفسي اكتشفت أن رغبتي في البقاء والخوف من الفناء قد تكون هي السبب الأساسي.

الفقرة اللاحقة تشرح ذلك بشكل اوضح.

أريد رسم شيء ما
خارج حدود الزمن
غير قابل للتلف
غير خاضع لقوانين
——————
شيء بسيط
يسهل على الجميع رؤيته
بالعين المجردة
——————
أما عن الرسالة
فلا أرغب تحميله بأيًا منها
فجميع الرسائل قد فسدت بفعل سوء الاستخدام
لذا، لا أريد له ملامح
أريده لا شيء
——————
فالملامح تتغير طوال الوقت
أريده على شاكلته
دون ملامح
حتى يزوره آخر شخص على كوكبنا
——————
ربما يحمل جزء مني
ذلك الشخص النرجسي
الذي يحبني لدرجة الخلود
حيث سيظل موجودًا إلى الأبد
——————
من المؤكد أن أشعر بالملل
لذا، سأوسمه ببعض ألوان
ليسر الناظرين
ليهزم مللًا طالما هزمني
——————
لماذا كل هذا العبث؟
لأن العبث أصل البقاء
——————

كتبت هذه الأسطر من أجل شرح ما أصنع دون أن أقصد بها مشروعاً بعينه، ثم اكتشفت فيما بعد -ولأنني شخص دائما ما يفهم الأشياء متأخراً- بأن هذه الأسطر وصف لما افعل منذ عام ١٩٩٠. وبما أن هذا المشروع هو محاولة للبقاء إذن فقد كان الوسيط الرقمي أحد الحلول العبقرية. لم ولن يشغلني تماماً تلف الورق أو الأحبار فهناك دائماً نسخة الكترونية يمكن إعادة نسخها في أي وقت. ليس للتجريد شكل مسبق، ولا يمثل صورة مألوفة، أي أنه لا يعكس أيّاً من الصور المرئية، لا مرجعية له ولا زجاجات ولا وجوه ولا شجر ولا طيور، ومنه جاء اعتقاد البقاء عندي فهو بطبعه خارج حدود الزمن.

بقي هناك اشكاليتان: أولاهما إثبات ملكية العمل أو تاريخه كما ساد العرف في الأعمال الفنية،وثانيهما أن الملف الخاص بالعمل متاح لي للعبث به طوال الوقت. أقوم بفتح تلك الملفات والتغيير فيها وحفظها من جديد ولا أستطيع التوقف عن هذا الفعل. أي أنه أصبح للعمل بداية ولكن النهاية مفتوحة دائما.

في مارس ٢٠٢١، بيع عمل رقمي لفنان أمريكي يدعى ميك وينكل مان وشهرته بيبل ب ٦٩ مليون دولار كـ NFT. كانت هذه المعلومة كافية لتثير فضولي لمحاولة فهم هذا العالم الجديد، ومع فهم هذا العالم الافتراضي الجديد وجدت حلاً نهائياً للاشكاليتين السابق ذكرهما.
حولت هذا المشروع إلى مجموعة على موقع Opensea، ويعتبر إحدى المنصات الشهيرة وربما أكبرها على الإطلاق لتجارة NFTs.

مشروع ٣٦٥ يوم من التجريد، هاني محفوظ، بتاريخ: ٢٠٢٢.٧.١٣. الفيديو تم تسريعه بدرجة ٥٥٠٪

اخترت ١ يناير ٢٠٢٢ ليكون بداية المشروع، أو نهايته بمعنى أدق. أرفع عملاً على المنصة في منتصف كل يوم.
اخترت التوقيت بحيث يكون ذات اليوم في كل العالم بين استراليا وهونولو. سمّيت كل عمل بتاريخ رفعه على المنصة وهو تاريخ وضع نهاية للملفّات المفتوحة. وفي ذات الوقت ترافقت هذه العملية مع مشاركة العمل على مواقع التواصل المختلفة.

أخطط بعد نهاية العام واكتمال المشروع بأيامه الـ ٣٦٥، أن أقوم بطرحه للعرض العام في أحد الصالات الفنية. بحيث يطبع كل يوم من المشروع على مقاس صغير قد يكون ٢٠ * ٢٠ سم. حتى يتسنى لي جمع ٣٦٥ قطعة على حائط واحد وكأنه تقويم مرسوم، وبجواره كل مراحله ما بين بوستر وبعض الأعمال والاسكتشات من معرض ١٩٩٤ وتحدي أكتوبر للرسم بالحبر في ٢٠١٧، والذي كان هو الآخر أحد مراحل المشروع نفسه، بالإضافة إلى كل ما يتوفر لدي من تغطيات صحفية أو صور للمراحل والأزمنة المختلفة.

س: من هم المصممون/الفنانون المصريون المفضلون لديك؟

ج:

محيي الدين اللباد
آدم حنين
وليد طاهر
أحمد فولة
عمرو ثابت
جورج عزمي

س: من هم المصممون/الفنانون الغير مصريين المفضلين لديك؟

ج:

بيكاسو
ميرو
ماتيس
ايجون شيلي
بولكلي
كلدر
سول ستينبرج
لوكربوزيا
ميس فاندرو
فيليب ستارك
بول سميث
وطبعا أود أن أنبه إلى أنني شخص غير واسع الاطلاع.

س: من أين يأتيك الإلهام لمشاريعك؟

ج:

مصادر الإلهام لا نهائية. فبالنسبة لشخص مثلي يعاني من شتات الأفكار، كل شيء -حرفياً كل شيء- ملهم. أؤمن بأن التصميم والابتكار ما هما إلا إعادة تدوير لأفكار سابقة. كل شيئ موجود بصورة أو أخرى، هو فقط يحتاج أن تراه بصورة جديدة، أو أن يعاد تدويره بشكل أو بآخر. هذه الفكرة جعلت باب الإلهام مفتوحاً دائماً على مصراعيه كما يقال، وهناك على الدوام فكرة ما على مقدمة رأسي يختارها شغفي من بين الأفكار الكثيرة الأخرى.

هاني محفوظ، مكتب الأستوديو، ٢٠٢٢

س: من فضلك، أخبرنا ماذا يعني لك مكتبك؟

ج:

هو المنطقة المريحة التي لا يشاركني فيها أحد آخر. ما من أحد له رأي بين الحوائط الأربعة غيري، حتى ولو كان رأياً تافهاً كتشغيل الاضاءة أو جهاز التكييف أو خفض الصوت على سبيل المثال. مكتبي هو المساحة الوحيدة الصغيرة التي تعود ملكيتها لي منفرداً. فبالإضافة لهذا البعد النفسي، تحتوي هذه المساحة على ماكينة قهوة وجهاز كمبيوتر و أيباد و واكوم وورق وطابعة وأقلام وسماعة، أي كل ما أحتاج إليه تقريبا من كوكبنا.

هاني محفوظ، الأستوديو، ٢٠٢٢

س: ما هو دور التصميم في المجتمع برأيك؟

ج:

العمل على جعل العالم مكاناً أجمل. أو على أقل تقدير محاولة السيطرة أو تقليص القبح الصادر عن مصممين آخرين

س: عندما تواجه حالة من نضوب الأفكار Creative Block، ما هي الطرق التي تساعدك على تخطي هذه المرحلة؟

ج:

سؤال صعب بعض الشيء. أنا لا اعتقد أنني أواجه هذه المشكلة في عملي اليومي كمصمم. ربما لأنني أولاً لا أصنف نفسي كمصمم، وبالتالي لا أعطي التصميم قدسية كما هو الحال في الفن. أنا من الأشخاص الذين يرون أن التصميم هو شراكة تجارية بين طرفين، والفيصل في تلك الشراكة هو تحقيق الهدف المرجو من العمل. لا أشعر بأنني من المفترض أن أكون إله التصميم، أو أن التصميم الخارج مني يجب أن يكون عملاً إلهياً يخضع لقوانين الوحي. غالباً، فإن ما يطلق عليه نضوب الأفكار (أو الكرييتف بلوك) يصيب أولئك الذين يبدؤون العمل وهناك صورة مسبقة أو تخيل محدد للتصميم في أذهانهم، وهو ما ليس لديّ.
ثانياً، قد يكون لقانون تسعير العمل أيضا يد في ذلك. فأنا لست من الأشخاص الذين يطلبون سعراً مرتفعاً للتصميم أو للفكرة. قد يكون هذا القانون الذي أعمل به قد رفع عني الحرج الخاص بإيجاد أفكار عبقرية. فأنا غالبا ما أسعر بعدد ساعات العمل حتى لو لم يكن ذلك واضحاً في عروض السعر الخاصة بي، لكن هذا ما يحدث في الغالب بيني وبين نفسي. لذلك، أنا أعتقد أن هذا الفعل غير ملزم لي بإيجاد أفكار عبقرية، هو ملزم فقط بالعمل عدد ساعات محددة، وهو أمر من السهل تحقيقه.
أما في حالات انقطاع الأفكار المطلق، بمعنى أنه ليست لدي أية قدرة على الانخراط أو حتى التفكير البسيط، تجدني غالبا اتأرجح بين اهتماماتي المختلفة إلى أن يتغير مزاجي العام، أي أنني أهمل الحالة بدل التعامل معها.

س: ما هي الوسائل أو الأدوات التي تستخدمها في الحيز الفني وتنتقل معك إلى حيز التصميم؟

ج:

قبل الإجابة، أعتقد أننا لا بد أن نعرف الفرق بين الفن والتصميم أولاً. فالفن هو بالأساس عمل حر ليس من المفترض أن يخضع لأية قوانين كالعرض والطلب، أو أية وظيفة مهما كان شكلها أو شأنها. على عكس التصميم الذي هو عمل فني يخضع في المقام الأول لقوانين الاستخدام والعرض والطلب، أو لنقل هذا هو المفروض. وبالتالي، وبناء على تعريفي الشخصي، لا أعرف تحديدا ما الذي قمت بأخذه من هذا الجانب الاخر. فقد يكون اتساع الفن، أو ضبابيته، أو مجرد محاولة إخراج التصميم من حيز الفترة، أو قد يكون شيئاً أبسط من كل هذا التنظير. هو مجرد الخلط او المزج بينهما في منتج هجين واحد.

س: لو تم تكليفك بكتابة تعريف لمجال التصميم الجرافيكي لأغراض أكاديمية على سبيل المثال لإدراج هذا التعريف في المنهج، ماذا سيكون تعريفك؟ وهل سيكون التعريف مختلفاً لو كان تعريفاً للتصميم الجرافيكي العربي؟ إذا كانت الإجابة نعم، ما هي أوجه الاختلاف؟

ج:

دائما ما يأخذ الجزء الخاص بالتعريف مساحة ضخمة من تفكيري إيماناً مني بأن الأخطاء الناتجة عن التعريف الخاطئ يستحيل تداركها، عكس أي خطأ آخر إذا كان التعريف سليماً. التصميم الجرافيكي هو بالأساس فن قائم على فكرة النسخ المتعدد، أي أن عملية الطباعة بأنواعها المختلفة تعتبر جزءاً من تعريفه. لذلك، فإن هذه الفرضية تمنح أهمية كبيرة للتقنيات والخامات المختلفة، مما يجعل العلم بها أمراً ضرورياً وليس رفاهية.
لنفس الأسباب السابقة أصبح هذا الفن فناً تطبيقياً بالمقام الاول، أي أن له وظائف محددة. وهنا أصبح من الضروري وضع الوظيفة بعين الاعتبار واحترامها، وهذا الاحترام في اعتقادي الشخصي لا بد أن يأخذ مكانة متقدمة عن الفن في أغلب الحالات إن لم يكن فيها كلها.

ليس لديّ تعريف مختلف للتصميم العربي. قد تكون مفردة اللغة العربية والبدء من اليمين بدل اليسار هو عنصر الاختلاف الوحيد من وجهة نظري. وبالتالي، فقد يضطر المصمم للجوء إلى بعض الحلول الأخرى تحديداً في موضوع التعامل مع النصوص، وذلك لخاصية الأحرف المشتبكة باللغة العربية، فهي لا تحتوي على كتل وفراغات هندسية كما هو حاصل في الحروف اللاتينية. رغم ذلك، تشترك معنا لغات أخرى في نفس الخاصّية كالهندية مثلاً، التي تحتوي هي الأخرى على حروف متشابكة. لذلك أعتقد أن وصف تصميم ما بالتصميم العربي قد يكون غير دقيق.

س: ما هي النصائح التي تقدمها للمصممين المبتدئين؟

ج:

☜ لا يوجد شكل واحد للأشياء، لا صواب ولا خطأ، كل الاحتمالات متاحة كل الوقت.
☜ الممارسة والعمل المستمر لهما نتائج السحر.
☜ لا تختر لنفسك مثلاً أعلى، فهو اعتراف ضمني منك بأنك محدود أو ذو درجة أدنى
 

ترجماتلقاءات
Dark Mode

ثورة للأطفال: إعادة إحياء تجربة دار الفتى العربيّ

في عام ١٩٧٤، تمّ تأسيس “دار الفتى العربيّ” لنشر أدب الأطفال في بيروت. وعلى مدى عقد كامل، كرّست دار الفتى العربيّ -والّتي عمل بها فنّانون ومصمّمون وكتّاب- جهودها من أجل جذب الانتباه إلى القضيّة الفلسطينيّة – من خلال إنتاج بعض من كتب الأطفال المدهشة بصرياً والأكثر تقدميّة في المنطقة. جلست مجلة “بدون” الثّقافيّة لإجراء هذا الحوار مع محيي الدّين الّلباد، أحد مؤسّسي دار النّشر ومديرها الفنّي الأوّل والأكثر تأثيراً، وكذلك مع نوال طرابلسي، وهي خبيرة رائدة في مجال أدب الأطفال وعادات القراءة، والّتي بدأت كرسّامة هاوية، اختارها الّلباد لتعمل معه في صناعة كتب الأطفال.

(١)
الألفابئية الفلسطينيّة
محيي الدّين الّلباد
(٢)
نفطُنا عربيّ!! نصّ ورسم أصليّ لمجلّة حائط
محيي الدّين الّلباد

محيي الدّين اللّباد: أتذكر المرّة الأولى الّتي دخلتُ بها مكاتب دار الفتى. لاحظتُ على الفور مدى فخامة المكتب – سجّاد من الحائط إلى الحائط ، صفّ طويل من الهواتف، قهوة وعصير برتقال طازج-. لقد جئت إلى بيروت مفترضاً أنّ الظروف ستكون صعبة جدّاً. ففي مصر كان لدينا هذه التّخيلات بأنّ كلّ ما يتعلّق بفلسطين يعني تلقائيّاً معاناة. تخيّلت أنّني سأنام على سرير حديديّ مع ستّة أشخاص آخرين في نفس الغرفة. ولكننّي كنت على استعداد تامّ للمعاناة من أجل القضيّة. فقد قمت للتوّ بالعودة من إجازة طويلة في باريس، استثمرت فيها كل مدّخراتي، لكي آتي إلى بيروت وأعمل مع دار نشر جديدة، مرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة.

لقائي الأوّل كان مع نبيل شعث، الّذي كان حينها مدير مركز التّخطيط الفلسطينيّ والمسؤول عن دار النّشر. كما كان عضواً في المجلس الثّوريّ لحركة فتح؛ ولاحقاً، تولّى مناصب مختلفة في منظمة التّحرير الفلسطينيّة والسّلطة الفلسطينيّة. في مكتب شعث، لاحظتُ على الفور كومة من الأوراق المطبوعة بالآلة الكاتبة في زاوية مكتبه. وردّاً على نظرتي الفضوليّة، قال لي إنّها مادّة وافق على نشرها، وشرع في طرح سؤال على أحد مساعديه عن سبب عدم إرسالها إلى المطبعة حتّى الآن. وأفاد موظف آخر بأنّه من الضّروري أوّلاً تصميم وإعداد المخطوطات الأوّليّة. وبالطّبع ، لم يكن هناك مصمّم. وهكذا بدأت رحلتي في دار الفتى.

نوال طرابلسي: لقد كانت دار الفتى العربيّ هي البرنامج الثّقافيّ التّابع لمنظمة التّحرير الفلسطينيّة، رغم أنّه لم يكن هناك أيّ توجيه سياسيّ مباشر لها. كانت دار الفتى العربيّ منارة للإبداع والتقدّميّة، وإن كان هناك بالتأكيد حماس واضح وحقيقيّ للثّورة الفلسطينيّة. لكنّ التّمويل جاء عن طريق منظمة التّحرير الفلسطينيّة.

محيي الدّين الّلباد: في الواقع، هذا ليس صحيحاً. جاء التّمويل من قبل مجموعة من رجال الأعمال. ففي ذلك الوقت، كان شائعاً إنشاء مشاريع من هذا القبيل بتبرّعات خاصّة. فقد تمّ تأسيس الدّار من قِبل أبو عمّار -الاسم الحركيّ لياسر عرفات- بعد أيلول الأسود والطّرد التّعسفيّ للفلسطينييّن إلى لبنان. كما تبرّع طبيب مصريّ ماركسيّ – تمّ سجنه من قبل نظام جمال عبد النّاصر في الخمسينات -، بمبلغ من المال لحركة “فتح” واقترح أن يتمّ استخدامه لتمويل شيء من شأنه أن يؤكّد استمرار الثّورة، وقدرتها على الصّمود على المدى الطّويل عند الضّرورة. في الوقت ذاته، كان يتمّ العمل على صياغة وثيقة مبدأيّة لتعليم الأطفال، وبالتّالي اكتسبت فكرة إطلاق دار نشر لكتب للأطفال الثّناء والتّأييد.

نوال طرابلسي: كنت في العشرين من عمري، وكنت أدرس الفلسفة في الجامعة الفرنسيّة في بيروت، وأمارس الرّسم إلى جانب ذلك كهواية. قمت بعرض بعض أعمالي في معرض بأحد مراكز الثّقافة في المدينة، وكنت محظوظة جدّاً بأنّ الّلباد قد رآها. وعلى الرّغم من أنّهم أبلغوه بأنّني ما زلت طالبة، أصرّ على مقابلتي على أيّ حال. سألني إذا كنت مهتمّة بعمل رسوم لكتب الأطفال. وبصراحة، حتّى ذلك الوقت، لم أكن قد قمت بتنفيذ أيّ رسوم للأطفال من قبل. والأكثر من ذلك، أخبرني أنّ دار النّشر ستكون بشكل أساسيّ عن الأطفال الفلسطينييّن ومن أجلهم، وفي ذلك الوقت، لم يكن لديّ أيّ ارتباط بفلسطين أو بالفلسطينييّن. ولكنّ الل]باد أخبرني ألّا أقلق، وأنّه سيقوم بإرشادي خلال العمل. في الحقيقة، لقد كان سلطويّاً في العمل! أطلقنا عليه فى المكتب اسم “السّيد ميليمتر” بسبب حدّته ودقتّه اللّامتناهية. قمت برسم ما يقارب عشرة كتب. وقابلت فنّانين مثل نذير نابا، كمال بلّاطة، وحلمي التّوني، كلّ هؤلاء العرب الّذين كانوا يقيمون حينها في بيروت كـ”غرباء”. وكطالبة لبنانيّة من جيل السّتينات تتحدّث الفرنسيّة، توسّعت آفاقي نحو الوطن العربيّ بفضل دار الفتى العربيّ. كنت مهتمّة بالبلدان التي جاؤوا منها، أحاديثهم ولوحاتهم، ولكنّني فضّلت البقاء بعيدة عن الأنظار.

محيي الدّين الّلباد: عندما بَدأتُ، لم يكن واضحاً لدينا ما سنقوم به. فلم تكن هناك خطّة للتّسويق أو للتّوزيع. لذلك، قرّرتُ أنّه من الضّروريّ وضع خطّة للتّسويق والتّوزيع إذا ما أردتُ أن تستمرّ دار النّشر بالعمل. وسرعان ما أصبح واضحاً لدينا بأنّه من الضّروري إنشاء عدّة سلاسل مختلفة لأجيال عمريّة متفاوتة، وبأشكال مختلفة. جعلتُ هدفنا الرّسميّ نشر سبعة وستّين كتاباً مع نهاية عامنا الأول. كان عدداً كبيراً إلّا أنّه كان ضروريّاً. كنّا بحاجة إلى وجود كتالوج شامل ومتنوّع لدار النّشر لإثبات نفسها، كما كنّا بحاجة إلى إيجاد منافذ بيع وعرض في العالم العربيّ بحيث تكون على استعداد لحمل كتبنا. وصلتُ إلى الدّار في مايو ١٩٧٤، وكان الهدف سبعة وستّين كتاباً بحلول ديسمبر. لم يكن هدفاً منطقيّاً ولكن وبطريقة ما وبأعجوبة، حقّقنا هدفنا.

نوال طرابلسي: أجل، ولقد تمكّنتم من نشر أعمال أصيلة! في الوقت الّذي انشغلت فيه دور نشر الأطفال القليلة الموجودة حينها بترجمة الكتب المنشورة بالفعل ونسخ رسوماتها. وما كان مثيراً للإعجاب فعلاً قيامكم بنشر نصوص حديثة عن أطفال ذلك العصر، أطفال السّتينات والسّبعينات. أضف لذلك أنّ دار الفتى العربيّ كانت دار نشر عربيّة تضمّ مؤلّفين ورسّامين من كلّ البلدان العربيّة، والّذي كان شيئاً جديداً وتقدّمياً حينها. فلم تكن دار نشر تعكس أذواق ملّاكها فقط، كما هو شائع الآن، وفي الوقت ذاته لم تكن ملكاً لأيّ بلاد. ولأنّها كرّست نفسها للقضيّة الفلسطينيّة، والّتي كانت في ذلك الوقت قضيّة العديد من العرب، فقد كانت مسعىً حقيقياً للوحدة العربيّة، وأعطت جلّ اهتمامها للأطفال. لم تكن كتابة ونشر كتب عالية الجودة للأطفال أمراً متعارفاً عليه/شائعاً حينها – حتّى التفكير في الأطفال كان ثوريّاً !

(٣)
رسم أوّلي أصليّ لغلاف “مائدة القطّ” لـ زكريّا تامر، ١٩٧٥
محيي الدّين الّلباد

محيي الدّين الّلباد: بعد نهاية عامنا الأوّل أجرينا تقييماً داخليّاً أشار إلى الفشل الذّريع في نظامنا الإداريّ والتّوزيعيّ. وكحلّ لذلك، قمتُ باقتراح تقليل حجم العمليّة الإنتاجيّة، والتّركيز فقط على صناعة المحتوى. لم يكن نبيل شعث سعيداً على الإطلاق باقتراحي، لقد أرادنا كياناً كبيراً، كمؤسّسة “أخبار اليوم”، عملاق الصّحف المصرية، ذو المبنى الضّخم المكوّن من تسعة طوابق. أو كإحدى الشّركات الكبيرة لإنتاج الفيديو. ففكّرت: “نحن لا نستطيع حتّى إنتاج كتاب للأطفال من ستّة عشر صفحة وتوزيعه كما ينبغي”. لقد حاول إقناعي بالبقاء، لكنّني قررت الرّحيل إلى مصر بعد السّنة الثّانية واندلاع الحرب الأهليّة. وكان قد قتل في الحرب اثنان من موظّفي المكتب. لكنّني واصلت العمل مع دار الفتى من خلال مشروع بدأته في القاهرة، وهو ورشة العمل العربيّة لكتب الأطفال، وقمنا بإنتاج عدّة كتب معاً.

(٤)
صفحة عنوان من كتاب الأعداد، ١٩٨٨
تمّ نشره من قبل دار الفتى العربيّ والورشة التجريبيّة العربيّة لكتب الأطفال

نوال طرابلسي: بعد رحيل الّلباد، لم يتواصل معي أيّ أحد من دار الفتى. فقد كانا عامين قصيرين ولكنّهما مؤثّرين جداً. لقد كان جليّاً أهمية محيي الدّين اللباد للمشروع. فقد كان ينتقي الفنّانين الّذين يعملون معه، ويرفض أن يُفرض عليه فنّانون فقط لأنّهم فلسطينيّون، أو لأنّهم أصحاب توجّهات سياسيّة معيّنة. أتذكّر أنّني دهشتُ عندما علمت أنّني كنت أتقاضى نفس الأجر الّذي يتقاضاه الرّسامون الآخرون، على الرّغم من أنّني لم أكن أعتبر نفسي محترفة مثلهم. لكن الّلباد أخبرني أنّه يدفع الأجر لـ “العمل/الرسم”، وليس لـ “الاسم” الذي قام برسمه. لقد كانت طريقة جديدة ومهنيّة وعادلة للتّعامل، وكنت فخورة بالعمل في مؤسّسة تعمل وفق هذه القواعد. لقد قام اللباد بإضفاء طابع عربيّ على دار الفتى – حيث حرص على أن لا تكون مجرّد أداة أخرى للدّعاية الموجّهة (بروباغاندا). فقد بحث عن كتّاب وفنّانين من السّودان، والمغرب، واليمن، وكلّ مكان في العالم العربيّ.

(٥)
ملصق “البيت”، تمّ نشره من قبل دار الفتى العربيّ، ١٩٧٩
محيي الدّين الّلباد

محيي الدين اللباد: من أجل ضمان استقلاليّتي، ولمنع الإدارة من التدخّل الكثير فى عملي، تعمّدت القيام بعملي بعيداً عن مكاتبهم وهكذا أبقيت العمليّة برمّتها تحت سيطرتي وحتّى لحظة قيامي بعرض النّتائج النّهائيّة لهم. في ذلك الوقت، جاء كلّ من حجازي وعدلي رزق الله ومحمود فهمي من القاهرة وأقاموا في منزلي – أربعة أسرّة متجاورة – عشنا وعملنا معاً. لقد عملنا بدأب كبير بحيث لم نحظى بفرصة عيش تجربة بيروت الّتي تسمعون عنها، بيروت المتع الّليليّة والطّعام الجيّد. فعندما جئنا نحن المصريّون إلى بيروت في السّبعينات، كان لدينا تأثير أكبر من المتعارف عليه الآن.
أحد الأشياء الّتي أتذكّرها جيّداً، والّتي كنت أقوم بها بلا وعي، كان استخدام كتالوج دار النّشر كفرصة لنشر ما يمكن اعتباره بشكل أو بآخر بيان بصريّ. قمت بجمع رسومات مختلفة ومناظرتهم جنباً إلى جنب من أجل إنتاج غلاف للكتالوج الّذي يمثّل نوع العالم البصريّ الّذي استهوانا حينها. لقد تخلّصنا من الرّسومات من قبيل (ميكي ماوس) و(توم وجيري). فقد كانت الفكرة تتمثّل في تقديم جماليّات “قاسية” جديدة وفي الوقت نفسه قويّة بصريّاً ومتكاملة فنيّاً – لغة بصريّة محليّة ترفض الطّبيعة العاطفيّة والبرجوازيّة للرّسومات الّتي كانت سائدة في ذلك الوقت. ما أردناه هو فئران وكلاب يبدو شكلها مثل تلك الّتي نراها تسير في الشّارع، ورسومات لقطط تدخّن السّجائر. لقد كان هذا ما كنت أبحث عنه، ليس فقط مجموعة رسوم منساقة وراء هدف خلق صور من أجل الدعاية الموجّهة (البروباغاندا) وحسب. وعلى كلّ حال، تمّت الموافقة على كلّ شيء قمت باقتراحه!

(٦)
نموذج أصليّ لغلاف الكتالوج الّذي يضمّ المنشورات الأولى لدار النّشر، تمّ اعتبارها من قبل المدير الفنّي كشكل من أشكال البيان البصريّ

نوال طرابلسي: أتذكّر اجتماعاً خلال الحرب الأهليّة شاركتُ فيه أنا ومحيي الدّين وفيه أبدى بعض الزّملاء رأياً مفاده أنّه بدلاً من رسم القتل والجثث، ينبغي لنا أن نرسم أشياء تدعو للتّفاؤل والأمل. لقد كنت ناقدة لهذا الموقف، فقد كنت أؤمن بأنّنا يجب أن نرسم ما يدور حولنا، ذلك الواقع البشع الّذي كنّا نعيشه. وبحلول هذا الوقت، كنت قد بدأت بالانغماس والتّفاعل مع القضيّة الفلسطينيّة، وكنت اتّفق مع محيي الدّين على أنّ الفنّ ينبغي أن يتجاوز الواقع حتّى يتّسنى للجمهور استيعاب الواقع نفسه. تميّزت تلك الفترة بأكملها بأفكار ثوريّة في كلّ مكان.

محيي الدّين اللّباد: كان ارتباط دار الفتى العربيّ بمنظّمة سياسيّة يعني وجود مواقف غير اعتياديّة في بعض الأحيان. فقد كان يظهر فجأة بين الحين والآخر مجموعة من الأشخاص الّذين لم ألتقيهم من قبل، يقفون ويراقبوننا بينما كنّا نؤدّي عملنا. في مثل هذه المواقف، كنت أحاول التزام الأدب والصّرامة في ذات الوقت. وبعد تبادل التّحيات التقليديّة كنت أعرف من هم، غالباً أشخاص من مركز التّخطيط الفلسطينيّ، وكانت زياراتهم شكلاً من أشكال التّحقيق من أجل معرفة طبيعة العمل الّذي كان يجري في الدّار بالضّبط.

في عام ١٩٧٥، قامت الإمارات بتمويل الحملة الإعلاميّة الّتي رافقت خطاب أبو عمّار التّاريخيّ في الأمم المتّحدة، وفجأة أصبح لدينا تمويل من أجل القيام بحملة ثقافيّة لمرافقة رحلته. وقد تمّ اتّخاذ القرار بترجمة عدد من كتبنا إلى لغات مختلفة من أجل استعراض أنواع الكتب الّتي يطالعها الأطفال الفلسطينيون. لقد كان مجرّد وجود دار نشر للأطفال إنجازاً في حدّ ذاته، ولحسن الحظ فإنّ الكتب الّتي تمّ اختيارها كانت ذات مستوى رفيع من النّاحية الجماليّة، وليست مجرّد دعاية موجّهة (بروباغاندا). ولكنّ المشكلة كانت بأنّ الإدارة لم تستطع في معظم الأحيان التّفرقة بين الدّعاية الموجّهة (بروباغاندا) وبين الفنون. لقد كانت جهودنا دوماً مرتبطة بالدّعاية الموجّهة (بروباغاندا)، لذلك فإنّنا لم نتمكّن أبداً من تحقيق قدرتنا الكاملة.

نوال طرابلسي: قمت مع فنّان آخر بتصميم بطاقة بريديّة للذّكرى العاشرة للثّورة الفلسطينيّة. وتمّ نشر الصّورة أيضاً في صحيفة النّوار، ولكنّها نسبت إلى فتاة فلسطينيّة ذات ١٢ عاماً تدعى نوال عبّود، والّتي لم تكن موجودة من الأساس. على الرّغم من أنّني شعرت بأنّ الفتاة الفلسطينيّة موجودة سرّاً بداخلي، مثل ذاتٍ سرّية، وعلى الرّغم من أنّني كنت سعيدة باختيار عملي واستخدامه من أجل القضيّة الفلسطينيّة – كملصق وكخلفيّة لمسرحيّة أطفال فلسطينييّن- ، إلّا أنّ ذلك كان يعدّ فعل سرقة لا يحترم حقوق الملكيّة للفنّان. لكنّني لم أعقّب بأيّ شيء. لديّ المخطط الأوّلي للرسومات الأصليّة، وبالنّظر إلى الماضي، تبدو لي هذه الرّسومات التوضيحيّة كرسومات أطفال الانتفاضة في أواخر الثّمانينات وأوائل التّسعينات.

(٧)
بطاقة بريديّة من أجل فلسطين (رُسمت في الأصل من أجل لبنان)
نوال طرابلسي

محيي الدّين الّلباد: من المهمّ الإشارة إلى أنّ تجربة العمل بمثل هذا القرب من جهاز سياسيّ أثّرت بشكل إيجابيّ على ممارستي العمليّة، لأنّها أتاحت اندماج كلّ القنوات المختلفة. فقد كنت أعمل كمصمّم، وكرسّام كاريكاتير، وكرسّام رسوم توضيحيّة – وبعد عملي بدار الفتى بدأت باستكشاف إمكانيّة دمج كلّ هذه الخيوط المختلفة. قمت بتصميم غلاف قصّة كان قد كتبها زكرياّ تامر تدعى “مائدة القطّ”، في ذات الوقت كنت أرسم الكثير من الكاريكاتير حول سياسة الانفتاح الاقتصاديّ للسّادات في السّبعينات، فظهر على الغلاف قطّ ذو مظهر شرس يقوم بإغواء طائر. وقمت بإعطاء القطّ علبة من سجائر مارلبورو وزجاجة من الكولا.

(٨)
يسار: كتاب الرّيش الجميل، ١٩٧٧
(٩)
يمين: مائدة القط، غير معرّف
محيي الدّين الّلباد

كانت هذه هي صورة العدوّ: في غاية الأناقة ولكن لديه مخالب، تماماً مثل الغرب. منشوراتنا الأصيلة -رغم أنها رخيصة الثّمن- ، إلّا أنّها فخمة المظهر. شعرت أنّ هذا ليس مناسباً – أن أذهب إلى مخيّم للّاجئين حيث المجاري المفتوحة، وأن أعرض مثل هذا الكتاب ذو المظهر الباهظ الثمن، والّذي كلّف فعليّاً حوالي ٢٥ قرشاً – والّذي كان يعتبر مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت. قمت بعمل دراسة تحليليّة أظهرت أنّه بالإمكان إنتاج كتاب بربع التّكلفة، إذا ما قمنا بالتّخلّص من الغلاف. لكنّ ذلك لم يحدث أبداً. كما بدأت أيضاً مجلّة حائط تستخدم في المساحة العامّة، مع ترك مساحات فارغة للمواطنين من أجل ملئها. قمنا بإنتاج ستّة من تلك المجلّات.

ومن بين التّجارب الرّسميّة الأخرى المبتكرة والمجزية، العمل الذي قمت به لكتاب زكرياّ تامر، والّذي كان مثل مقارنة بين الحصان البرّي الحرّ والحصان المروّض. في ذلك الوقت، شاهدت معرض لوحات للخيول في اليمن للفنّانة ليلى الشوّا. لذلك سألتها إذا ما كانت ترغب برسم هذا الكتاب. وعندما تردّدت، قلت لها أنّنا يمكن أن نعمل على الكتاب معاً. قلت لها: “قومي بتنفيذ اللّوحات بأيّ شكل ترغبين، واتركي لي بعض المساحة لكتابة النّص”. عملنا على الكتاب معاً، وكان جميلاً حقّاً. كنت مهتمّاً دائماً بالبحث عن فنّانين جدد غير معروفين أو غير محترفين، لديهم قوّة ما في أعمالهم.
مثل نوال، كانت ليلى قد تخرّجت للتوّ من الجامعة وكان لديها أسلوب حرّ وعفويّ رائع. ولكننّا نحتاج إلى بعض الوقت لاكتشاف النّاس، وبعض الوقت للعمل معهم. لسوء الحظ، فقد سارت الأمور بشكل متقلّب جدّاً، كما عملنا مع أشخاص لم يستطيعوا تجاوز الجماليّات الّتي كانت سائدة في ذلك الوقت. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الهدف الذي وضعتُه لدار الفتى لإنتاج سبعة وستّين كتاباً بحلول ديسمبر ١٩٧٤ ألزمنا ببعض هذه الخيارات. أحياناً، لا نكون جديرين بأحلامنا الكبيرة، كما أنّ أولئك الذين نتعامل معهم قد لا يرون أحلامنا كما نراها. وربّما لم أكن قادراً على تحقيق المعايير الجماليّة التي وضعتهُا في البيان.

(١٠)
واحدة من سلسلة مجلّات للأطفال، نُشرت كملصقات من قبل دار الفتى العربيّ، ١٩٨٨
محيي الدّين الّلباد

نوال طرابلسي: بالنسبة إليّ، فإنّ تجربتي مع دار الفتى والحرب بعد ذلك وضعتني على الطّريق الّتي أنا عليها الآن. كانت في ذلك الحين جزءاً من نطاق عامّ للحركات الثّوريّة. أنا ابنة ذلك الجيل الّذي كان يحلم بخلق عالم جديد، لبنان جديد كبلد للحريّات والحقوق لجميع مواطنيه، بغضّ النّظرعن الدّين، والجنس، والطبقيّة الاجتماعيّة.

لقد استمرّت الحرب بتدمير كلّ شيء في حياتي، لكنّ عملي في دار الفتى كان البذرة لكلّ ما أفعله الآن. منذ أكثر من عشر سنوات وأنا منغمسة في أدب الأطفال والمكتبات والقراءة العامّة. أنا واحدة من مؤسّسي أوّل الجمعيّات غير الرّبحيّة في لبنان والّتي تركّز في عملها على إنشاء وتطوير المكتبات العامّة. بعد انتهاء الحرب مباشرة، كان رفيق الحريريّ يعيد بناء البلاد بطريقة برجوازيّة، وفي المقابل كانت هناك مجموعة من الأصدقاء والنّاشطين الّذين بدأوا بالعمل على إيجاد بدائل يتمّ من خلالها إعادة بناء هذه البلاد المنكوبة. لذلك قمنا بتركيز جهودنا على الأطفال والمدارس العامّة والمكتبات.

محيي الدّين الّلباد: بعد أن غادرتُ بيروت عام ١٩٧٦، استمرّت دار النّشر بالعمل حتّى الغزو الإسرائيليّ لبيروت عام ١٩٨٢، حيث غادر الاحتلال الاسرائيليّ مع النّزوح الجماعيّ للفلسطينييّن. ثمّ انتقلت الدّار إلى القاهرة، وحينها حدث تغيير كبير. أعتقد أنّ السّياسة أخيراً أصبحت مهيمنة تماماً. وهذا مجرّد تخمين، ولكنّني أعتقد أن الدّار شكّلت قناة سرّيّة للتّواصل بين منظّمة التّحرير الفلسطينيّة والحكومة المصريّة، حيث لم يكن التّواصل بينهما رسميّاً حينها. واصلتُ تصميم بعض الكتب والطّوابع البريديّة من أجلهم، مثل الطّابع البريديّ الأيقونيّ الّذي يحمل اسم “فلسطين عربيّة”. وعندما شاركت إسرائيل للمرّة الأولى والأخيرة في معرض القاهرة للكتاب، وكان جناحها مجاوراً لجناح دار الفتى العربيّ، تطوّعنا لعمل فعاليّات وأنشطة مختلفة من أجل دعم دار النّشر والاحتفال بفلسطين. واكتشفنا في وقت لاحق أنّ منظّمة التّحرير الفلسطينيّة كانت قد خصّصت ميزانيّة لهذه الأنشطة، أتساءل أين ذهبت الأموال حينها. بحلول ذلك الوقت -في منتصف الثّمانينات- كانت الدّار قد انتهت تقريباً، فكلّ عدّة سنوات، قد يتمّ نشر كتاب ما. وأخيراً، تمّ إغلاق الدار بشكل نهائيّ في وقت ما في أوائل التّسعينات، لم يتّصل بنا أحد قطّ ليخبرنا.


مصادر:

يمكنك إيجاد المزيد من أعمال محيي الدّين الّلباد على موقع أرشيف الغلاف العربي
أرشيف رقمي لبعض منشورات دار الفتى هنا
توثيق لسلسلة قوس قزح الخاصّة بالأطفال الّذين تتراوح أعمارهم بين ٣-٦ هنا
مقابلة صوتيّة مع محيي الدّين الّلباد وحسناء رضا، ٢٠١٤ هنا
لشراء كتاب “كشكول الرسم” لمحيي الدّين الّلباد هنا
لشراء كتاب “نظر” لمحيي الدّين الّلباد هنا

ترجمة محمود الحسيني وأميمة دجاني
This interview was conducted by Hassan Khan and was published in BIDOUN, Noise, winter 2010.
This is published with permission from BIDOUN.
Some of the resources are taken from Hadibadi, check them Here