Preloader
مقالات
Dark Mode

ملاحظات متفرقة حول تعليم التصميم الغرافيكي

– وَحش

في وسط مدينة عريقة كوزموبولتية ذات عمق تاريخي، يسكن وحش منفوش، ساعات نومه غير منتظمة، لا تتبع جدولًا زمنيًا محددًا، ما يصعِّب التنبؤ بمدة فترات نومه. لكنَّه عندما يصحو، تحدث أشياء سحرية!

يغطي جسد الوحش فروة تشبه دمية الـ(بينياتا)، وشرائط خفيفة الوزنِ مرصوصة بانتظام ومصنوعة من أفكار وتطلعات مزدهرة.

يعكس نمط نوم الوحش مشهد التصميم الغرافيكي في المنطقة؛ فخلال العقد الماضي، تذبذب الاهتمام بفعاليات التصميم، لتقام الأنشطة المتعلقة بالتواصل البصري على تقطُّع. كانت تظهر مرة وتختفي مرات أخرى. أحيانًا، تُطلق عدة مشاريع في الفترة ذاتها. وفي أحيان أخرى، لا تقام أية فعاليات على الإطلاق، حتى يبدو الأمر وكأن مجال التصميم لم يعد متواجدًا.

تمتلئ تلك المساحات الخاوية بالقلق الواقع بين فترات نوم الوحش، وتحد من إمكانية نشوء مبادرات جديدة، لكنها تشجع في الوقت عينه السكان الطموحين للمدن الشبيهة بمدينة الوحش، ممن لديهم فضول تجاه ما يحمله المستقبل من تخطٍ للخوف من المجهول والفشل.

– متفرق

في الآونة الأخيرة شغلتني كلمة «متفرِّق». تستخدم الكلمة عند الإشارة لأفكار متعلقة بموضوعات قد لا تتصل ببعضها البعض، لكنَّها تتشارك في انتمائها لسياق واحد. ويعكس تردد الكلمة المتكرر الوضع العالمي الراهن الذي نجد أنفسنا نعيش فيه، وهو وضع لا نستطيع الفرار منه إلا بشكل مؤقت؛ سواء عن طريق المعوقات الخارجية أو عن طريق استبطان الذات. في اللحظة التي نشعر فيها أنَّ الأمور على وشك الاستقرار يفور كل شيء من جديد، ولا يجدي شيء لتخطي ذلك. لا شيء. نحن نعيش في ضباب من الضوضاء البيضاء عديمة المعنى.

– التصميم الغرافيكي : Graphic Design : Form- und Bildgestaltung : Création Graphique

لطالما تعاملتُ مع مصطلح “Graphic Design” (التصميم الغرافيكي) بوصفه مصطلحًا جامدًا يصف هذا الفرع من فروع مجال التواصل البصري. أجده ذا طابع علمي جاف ورجعيًا بعض الشيء، ولا يبدو لي أنه يشرح المعنى أو يصف المجال جيدًا. أما نظيره الألماني “Form- und Bildgestaltung” (الشكل وتصميم الصور) فهو على النقيض منه، يعكس بدقة العناصر التي تكون المجال؛ أي الشكل وتصميم الصور (التصميم البصري). بينما يركز المصطلح الفرنسي (Création Graphique) على فعل الابتكار. باختصار، بعكس المصطلح الأول، يصف كل من المصطلحَيْن الألماني والفرنسي أهمية العلاقة بين عملية التصميم ومنتَجها النهائي بشكل أكثر عمقًا.

ينطوي التصميم الغرافيكي –كأحد المجالات الفنية– على فكرة تحويل محتوى ما إلى شكل بصري من أجل خدمة غرض محدد، ويتم بث ذلك المحتوى عبر وسيط معين وفقًا لشروط موضوعة مسبقًا. يشبه الأمر استقبال بعض المعطيات، ثم إكسابها معنىً جديدًا وصيغة جديدة، مثل صُنع سوربيه ليمون باستخدام الليمون الذي تمنحنا إياه الطبيعة. إن منهجية عملية التحول هذه تعتمد على السياق الثقافي، وعلى وسيط الإنتاج، وعلى خلفية المتلقي، وعلى اللحظة الزمنية الراهنة، وغيرها من العوامل الأخرى. وقد يكون الغرض من هذه العملية إبلاغ رسالة، أو الإعلان عن فعالية، أو الإدلاء ببيان، أو توجيه المتلقي إلى مسار معين، أو التجريب بشكل حر للجمع بين أفكار معروفة ووسائط غير معتادة من أجل الكشف عن شيء جديد عبر العملية الإبداعية.

– الحركة

نحتاج إلى وكزة، إلى دفعة، إلى التحرر من القيود التي نكبل بها أنفسنا، وأن نصنع مساحة مريحة للمصممين والطلبة والمعلمين ومحبي فنون التصميم يجتمعون فيها وينتجون ويتشاركون فيها الأفكار بلا تحفظات.

وقد تكون هذه فرصة مؤاتية لإحداث تغيير وخلق سياق جديد. إذ من الصعب التفاعل مع سياقٍ عنيف، والصمود فيه لحماية أنفسنا من الاضطراباتِ المحيطةِ بنا. أما هذه الفرصة فستخولنا حتمًا للمضي قُدمًا في محاولاتنا التغييرية.

– استكشاف المجهول

يرجح التواجد الكثيف لصور العلامات التجارية وصيحات الموضة على منصات التواصل الاجتماعي أسلوب حياة جاذب لمواليد الألفية الثانية. التعاون المثير بين كل من شركة (أديداس أوريجينالز) و(ألكساندر وانج) هو أحد الأمثلة على ذلك. يتميز هذا التعاون بانطوائه على خليط من التأثيرات المختلفة؛ فقد تناول المصمم عنصرًا ينتمي إلى الماضي الخاص بالشركة، ألا وهو العلامة التجارية ذات الأشرطة الثلاثة من فترة السبعينيات، واستطاع تغيير الطريقة التي يُنظر بها إلى ذلك العنصر عن طريق قلبه رأسًا على عقب. بهذا الشكل؛ عن طريق استخدام عناصر مألوفة بشكل غير مألوف، أعلنت شركة (أديداس أوريجينالز) عن احتفائها بنمط حياة “جذاب” و”حر” لا يلتزم بالتقاليد الجامدة. تعد هذه العلاقة بين أسلوب الحياة وفن التصميم دافعًا هامًا وراء الاهتمام المتزايد بدراسة التصميم الغرافيكي. ورغم أن الدافع وراء هذا الاهتمام قد يبدو واضحًا، فإن بعض الطلبة يأتون إلى قاعات المحاضرات بتصور مسبق ملخصه أن التصميم الغرافيكي أقرب إلى فن الرسوم المتحركة أو فن الرسم أو حتى التصميم الداخلي. أجد هذا الاهتمام، رغم اختلاط الدوافع المؤدية له، مثيرًا بالإعجاب. إذ يبدو أن لمجال التصميم قوة مغناطيسية تجذب الطلبة رغم عدم وعيهم الكامل بطبيعته. فحين يبدؤون دراستهم دون إلمام كامل بطبيعة ما يدرسونه، فإنَّ ذلك يسمح لهم بالعمل بشكل أكثر انفتاحًا وأقل تقيدًا بالضوابط. وقد تفتح مفاهيمهم المختلطة هذه، في النهاية، أبوابًا جديدة للمعرفة.

– اصطحاب الطلاب في جولة

في صباح يوم اثنين حار في القاهرة، دخلت أستاذة إلى قاعة محاضرات بجامعة في إحدى ضواحي القاهرة الصحراوية، لتجد الطلبة محشورين في المقاعد، تصطدم أذرعهم ببعضها، وهم يحاولون -بشكل غير فعال- تنفيذ رسوم دقيقة على مجموعة من الأسطح الورقية. كان الطلبة يحاولون رسم مجموعة من الدوائر والمستطيلات بالاستعانة بنماذج بلاستيكية، وبإرشاد من شبكة خطوط طولية وعرضية مرسومة مسبقًا على الورقة بقلم رصاص. كان الهواء في القاعة راكدًا وجافًا، وساد شعور ضمني بضرورة حدوث شيء لتغيير المزاج. كان ضروريًا أن يعاد الإمساك بزمام الأمور وتحريرها. وعليه، طلبت الأستاذة من طلابها إحضار خامات معينة للاستخدام في درس الأسبوع المقبل، من دون أن تكشف لهم عن طبيعة النشاط الذين سيقومون به. وطلبت منهم أيضًا إحضار حبر أسود، وأكبر فرش الرسم حجمًا، والكثير والكثير من الأسطح الورقية البيضاء كبيرة الحجم.

في يوم الاثنين التالي، دخلت الأستاذة إلى القاعة لتسمع أصوات خلط الأوراق وتعثر الطلاب قبل استقرارهم في أماكن جلوسهم. مثل عاملي إطفاء حريق في محطاتهم، طلبت الأستاذة من تلاميذها تجهيز مكان عملهم وتحضير الخامات بطريقة تسمح لهم بالوصول إلى الأدوات والعمل بشكل سريع وفعال بمجرد بدء العد التنازلي. ثم أعطتهم بعد ذلك كلمة رئيسية يتوجب عليهم وصفها بصريًا عبر عشرين رسمة تحضيرية يرسمونها على عشرين قطعة من الورق، خلال عشرين دقيقة. ٢٠/٢٠/٢٠!

كان الموضوع المقترح هو «الأمطار»، قطرات مياه تتدفق بدرجات قوة، وبأوزان وسرعات متفاوتة يصعب حصرها. قطرات ندى، أمطار خفيفة، سيول. بدأ الطلبة في العمل. ركز بعضهم على تصوير حركات بطيئة رقيقة، بينما استخدم آخرون ضربات فرشاة عنيفة صاخبة، أو سكبوا شلالات من الحبر لتصطدم بالسطح الورقي. تغطت أرض القاعة بأسطح ورقية ملطخة ببقع الحبر مع إنتهاء كل طالب من تنفيذ أحد الرسوم، فالتقط سطحًا ورقيًا جديدًا وأخذ يفكر في كيفية الحصول على نتائج جديدة بأسرع شكل ممكن. بعد مرور عشرين دقيقة، دق المنبه معلنًا انتهاء التدريب. تنقلت الأستاذة ومعها الطلاب حول القاعة بين الأسطح الورقية الملقاة على الأرض مستغلين أية بقعة خاوية من الرسوم لوضع أقدامهم، وأخذوا يناقشون مواطن التشابه والاختلاف بين النتائج المختلفة التي توصل إليها كل منهم. خيّمت سحابة من الهمهمة على القاعة، أمكن خلالها تمييز بعض الكلمات الرئيسية التي تصف التجربة وتلخصها.

– التجريد وعملية التصميم

حين يتعلق الأمر بإيجاد سياق مناسب للتصميم، يلعب التجريد دورًا بالغ الأهمية؛ فاللجوء إلى التجريد في التدريبات الدراسية كعنصر تعليمي يساعدنا على اكتشاف طرق مناسبة للتواصل البصري دون الاعتماد على المفاهيم والرموز ذات المدلولات الثقافية والاجتماعية والسياسية المتعارف عليها. يساعدنا التجريد على اكتشاف الطرق المعتادة التي نستخدم بها الإشارات للتعبير عن الأفكار. ولكنه بالإضافة إلى ذلك، فهو يساعدنا أيضًا على التوصل إلى طرق جديدة للتعبير تتناسب بشكل أكبر مع تجاربنا المعاصرة، وهي تجارب قد نجاهد في فهمها وتقبلها نتيجة الاضطرابات التي تحدث من حولنا على مستوى العالم. نحن نلجأ إلى التجريد بغرض تبسيط المفاهيم لكي نطلق العنان لأفكارنا، فنجرِّد العناصر إلى أشكالها الأساسية التي تكونها، وننزع منها اللون، ونمضي في رحلة اكتشاف العلاقات بين تلك الأشكال والفراغ المحيط بها.

رغم التناقض بينهما، تسير عملية التجريد غير المعنية بالمادة، والعملية الإنتاجية المعنية بالمادة ذاتها، بشكل متوازٍ. فبالاعتماد على العملية الإبداعية كأداة اكتشاف، نستطيع ابتكار لغة شفهية ومفردات بصرية متطورة من أجل التعبير عن وضعنا المعاصر. قد تعتبر العمليات المتعلقة بالتصميم، والتي تتحكم بها أحيانًا الوسائط التي يستخدمها، بمثابة طرق للتواصل مع مواضيع مجردة بغرض اكتشاف علاقات جديدة محتملة بين كل من الشكل، والموضوع، والخامة أو الوسيط.

– فولفغانغ فاينغارت

أخذ (فولفغانغ فاينغارت) المتعة على محمل الجد. تناول (فاينغارت) أبسط الأفكار، وخاض بها رحلات مدهشة ليصل في النهاية لحلول جديدة تمامًا مبتكرًا لغةً بصريةً خاصة به تتخطى حدود نمط «التصميم السويسري». كان يفعل ذلك وهو محكوم بالقيود التي كانت تفرضها عليه مساحة ورشة طباعة الحروف المتواضعة نسبيًا التي عمل بها في (سكول فور غستالتونغ) بمدينة بازل. وقد قام باكتشافات مؤثرة باستخدام طرق خاصة تميزت بالتلقائية الشديدة، عبر تعديل الأدوات التي كان يستخدمها في ورشة طباعة الحروف. يعد تدريب «حرف M» من الأمثلة الجيدة على محاولاته المدهشة تلك. إذ تناول (فاينغارت) حرف M في حالته العليا بشكليه ثنائي الأبعاد وثلاثي الأبعاد، وقام بالتجريب مستخدمًا إياه بطرق مختلفة؛ فخلط بين أحجام، وسُمك، وأوضاع، وزوايا، ومناظير، وخامات مختلفة باحثًا عن علاقات بصرية بين تلك العناصر عن طريق اختبار أوضاع تكوينية، وتداخلات بين الأشكال؛ ليتوصل في النهاية إلى تنويعات معبرة، ودينامية، ومتنوعة ترتكز على حرف واحد. نحيف / سميك / ليّن / عنيف / منطقي / غير منطقي / مقروء / غير مقروء / عضوي / معماري. تظل منهجية (فاينغارت) التجريبية محلًا للتقدير إلى يومنا هذا.

– وقت أمام الشاشة (أو كيف لا تصبح دكتاتورًا)

قلما يتحقق ما نتوقعه من التدريبات المفروضة على الطلاب خلال وقت محدد. نحن نتوقع من الجيل الحالي أن يتصور مفهوم الزمن كما نتصوره نحن، وهو توقع قد يكون غير منطقي. ربما يستطيع هذا الجيل الجديد الإنجاز بفعالية، والحفاظ على عدم تأثره برنين الهواتف المحمولة المستمرة المنبئة بتلقي بريد إلكتروني جديد أو رسائل الأصدقاء أو العائلة. ربما يجب علينا أن نغير توقعاتنا أثناء إدارة المحاضرات، لنستطيع استخدام تلك العوامل المقاطعة للدرس بشكل بناء؛ وهو شيء لم أستطع بعد أن أتوصل إلى كيفية تطبيقه. باختصار، السؤال هو: كيف يمكن لنا أن نستخدم العوامل المعاصرة لنعيد التفكير في منهجيتنا التعليمية؟

‏كتبت انچي علي هذا المقال لمجلة بين في عددها الأول “بدايات الحوار” عام ٢٠١٨، وتعاونت بين مع باسم يسري لترجمته للعربية.


تم تعديل النص قليلا ليناسب النشر عبر الإنترنت بشكل أفضل.

ترجماتكتابات نقديةمقالات
تيتوس نيميث
Dark Mode

عن ضبط طول السّطر في النّصّ العربيّ: الجزء الأوّل – نبذة تاريخيّة

هذا هو المنشور الأوّل ضمن سلسلة منشورات حول تنسيق النّصّ العربيّ. يبدأ بتناول بعض التأمّلات الأساسيّة – والّتي نادراً ما يتمّ التّعبير عنها – حول الموضوع الّذي يشكّل البنية التّحتيّة لما سيتمّ مناقشته. ثمّ سينظر المنشور في الإرث التّيبوغرافي لضبط طول السّطر في النّصّ العربيّ من خلال عرض تاريخيّ قصير للغاية. فمن أجل فهم الوضع الحاليّ والمضيّ قدمًا بوعيٍ وعلم، يجب علينا أن نعرف كيف وصلنا إلى الوضع الرّاهن.

سيتناول المنشور الثّاني بعض تطبيقات البرامج والخيارات المتاحة حاليّاً، وسيناقش مناهجها وصفاتها وأوجه قصورها. وبعد الحديث عن التّنسيق النّصيّ الحاليّ للّغة العربيّة، سنقوم بفحص نماذج من ممارسات تاريخيّة من الشّرق الأوسط بمنشور إضافيّ، وذلك بهدف تحديد الشّواهد الّتي قد تساهم في النّهوض بالممارسة الحاليّة.

أسس ضبط طول السّطر في النّصّ العربيّ

ضبط طول السّطر في النّصّ العربيّ، أي ملء سطر من النّصّ بالكلمات من أجل الحصول على طول موحّد لجميع أسطر العمود، يستخدم مفاهيم مختلفة عن تلك المتعارف عليها في النّصّ الّلاتينيّ. نظرًا لأنّ الأحرف العربيّة تتّصل بمعظمها، فإنّ “شرطة واصلة -hyphenation”، أي تقسيم الكلمات في نهاية السّطر إلى جزأين، لا تمارس في العربيّة بشكل عامّ. (هناك بعض الاستثناءات، خاصّة في قواعد الإملاء الأويغوريّة الحديثة الّتي تبنّت تقسيم الكلمات عبر الأسطر في ضبط طول الأسطر للنّصّ الطّباعيّ).(١)

في النّصوص العربيّة، سواء المطبوعة أو المكتوبة بخطّ اليد، يتمّ ملء المساحة المتبقّية من السّطرباستخدام ثلاث تقنيّات أساسيّة معاً:
(1) التّنويع في أشكال الحروف (خصوصاً الاستطالة والحروف البديلة).
(2) التّغييرات في كثافة الّلونيْن الأبيض والأسود.
(3) تعديل الكلمات، بما في ذلك الرّصّ الرّأسيّ للأحرف، وتقليل الحجم، ومدّ السّطر إلى الهوامش.

في سياق التّنسيق الطّباعيّ، فإنّ التقنيّة الأخيرة تعتبر هامشيّة في الأهميّة، حيث أنّ هذا المنشور سيأخذ بعين الاعتبار أوّل تقنيّتين فقط.

لافتة مكتوبة بخطّ اليد لعيادة طبيب جرّاح، نرى فيها مبادئ الاستطالة في بعض أنواع الخطوط العربيّة. من الأعلى إلى الأسفل: خطّ النسخ باستخدام كاف ذات استطالة، خطّ النّستعليق الّذي يستخدم الكشيدة للاستطالة، خطّ الرقعة الّذي لا يستخدم أيّ استطالة بسبب الاختلاط الّذي قد تتسبّب به مع حرف السّين الوسطيّة. دمشق ، سوريا، 2007. تصوير الكاتب.

تعتبر الاستطالة من أبرز التّقنيات المستخدمة في ضبط طول الأسطر في النّصّ العربيّ، والمعروفة بمصطلحات مختلفة ذات استخدام مبهم، مثل الكشيدة، والمدّ، والتّطويل.(٢)
ورغم أنّ الكشيدة هي المصطلح الأكثر استخداماً، إلّا أنّها تفتقر للدّقّة في المعنى. مع ذلك، من بين المؤلّفين المنخرطين في موضوع تنسيق النّصّ العربيّ، يبدو أنّ هناك إجماعاً متزايداً على أنّ كشيدة هي المصطلح المفضّل لاستطالة أجزاء من الحروف، دون دراية بالتّطبيقات التكنولوجيّة.(٣) يقوم هذا المنشور بأخذ الفروقات المدروسة الّتي قام بها توماس مايلو في سياق تقنية الديكوتايب بعين الاعتبار.(٤) وفيها يكون مفهوم الكشيدة مرتبطاً بتطويل الأحرف عن طريق استخدام خطّ مقوّس يشبه ما نراه في المخطوطات العربيّة، وهنا يشار لـ”التّطويل” برمز يونيكود U+0640.(٥) شكل آخر أكثر تخصّصاً للاستطالة هو الأطوال المختلفة داخل الحرف نفسه (مثل: ي،ن). رغم أنّ هذه التّقنيّة تستخدم أيضاً لضبط طول الأسطر في النّصّ (بالإضافة لاستخدامات أخرى) إلّا أنّها محكومة بقواعد أخرى تختلف عن تلك الخاصّة بالكشيدة، وسيتمّ الإشارة إليها هنا بـ “الأحرف ذات الاستطالة”.

على عكس ذلك، فإنّ خطّ المدّ “تطويل”، -ورغم أنّه يُعتبر بشكل عامّ التّقنيّة المعتمدة لتنسيق النّصّ العربيّ-، إلّا أنّه جاء كنتاج لتكنولوجيا الطّباعة، ويجب النّظر إليه بشكل منفصل. سيتمّ مناقشة “التّطويل” بشكل مفصّل أدناه، ولكن سنكتفي بالقول في هذه المرحلة أنّه لا ينبغي اعتباره خاصّيّة متأصّلة في النّصّ العربيّ. من المهمّ أن نشير إلى أنّ استطالة أشكال الحروف لا تعني التّمديد (أي مجرّد تشويه)، إنّما تعني إعادة تشكيل كاملة لشكل الحرف، وتعني أيضاً أنّ بعض الأحرف، بل أجزاء معيّنة منها فقط قد تكون قابلة للاستطالة – وهذا يجب أن يكون في سياقات محدّدة تعتمد على الأسلوب.

مخطوطة عربية توضح أساليب تنسيق متنوّعة لخطّ النّسخ. لاحظ/ي كيف تمّ استخدام أساليب ضبط طول الأسطر في النّص بمهارة: بعيداً عن عن العناوين الفرعيّة الفاصلة بالّلون الأحمر، والّتي من المفترض أن تكون بارزة، فإنّ أسطر النّصّ الرّئيسيّ تظهر بأطوال متساوية دون استطالات واضحة. يمكن ملاحظة الاستطالات عن طريق التّأمل الدّقيق فقط (السّطور 1، 3، 8) ، والأحرف المصفوفة (الأسطر 1 ، 3 ، 13) ، والتّغييرات في كثافة الكلمات. مع كون تلك الأخيرة هي الأسلوب المفضّل للاستطالة في هذه المخطوطة. تقيّ الدّين محمّد بن معروف، علم البنكامات، نابلس، 1701-1800، 27.5 سم في 17.5 سم، ص.85 بإذن من بي إن إف جاليكا: https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/btv1b8406163s/f14.image

من المخطوطات العربيّة إلى طباعة الحروف البارزة

عندما اعتمدت المطابع أسلوب تنسيق الخطوط الطّباعيّة من أجل تجميع النّصوص العربيّة، كان لا بدّ من ملاءمة مبادئ تنسيق النّصّ للوسط الجديد. عند كتابة المخطوطات، كان النّاسخ يستخدم خبرته من أجل تقدير عدد الكلمات الّتي يمكن أن تملأ سطراً ما. سواء أكان يحتاج إلى مساحة أكبر أو أصغر، كان يستطيع تعديل النّسبة بين الحروف، ومساحة الفراغات البيضاء، والتّرتيب الرّأسيّ للأحرف والكلمات، وما إلى ذلك. كان ذلك يتمّ قبل الّلجوء إلى طرق التّنسيق الأكثر وضوحاً: الأحرف ذات الاستطالة والتّطويل. وهكذا، كان لدى النّسّاخين مجموعة من الأدوات من أجل ملاءمة السّطر المكتوب داخل العامود.

لم يتبقّ الكثير من هذه القابليّة للتّطويع في عالم طباعة الحروف. وعلى الرّغم من إمكانيّة تعديل المساحة البيضاء، إلّا أنّها لم تكن بنفس المرونة. كانت زيادة الرقيقة الفاصلة (المالئة) من أجل ملء السّطر أمرًا سهلاً إلى حدّ ما، لكنّ تصغير الفوصلة بين قطع الأحرف البارزة كان يتطلّب جهدًا أكبر نسبيّاً من قبل المسؤول عن تجميع الأحرف مقارنة بالنّاسخ. من ناحية أخرى، لم يكن بالإمكان تعديل أشكال الحروف على الإطلاق، ممّا قلّل بشكل كبير من فرص التّحايل على تنسيق النّصّ. وهكذا، تبقّى للمسؤول عن تجميع الأحرف البارزة ثلاث طرق سريعة لضبط طول الأسطر وتحديد شكل النّصّ:(٦)
(1) زيادة المسافات بين الكلمات.
(2) استخدام أنواع من الأحرف المعدنيّة ذات الاستطالة إذا ما توافرت في الحرف الطّباعيّ، وكانت قابلة للاستعمال في السّطر المحدّد.
أو ( 3) إدخال قطع معدنيّة ذات طابع خاصّ بين الأحرف من أجل محاكاة استطالة أجزاء الحروف – إدخال التّطويل.

على الرّغم من كونه ممكنًا من ناحية تقنيّة، إلّا أنّه لم يكن منطقيّاً من ناحية اقتصاديّة أن يقوم المسؤولون عن تصنيع الأحرف بإنتاج أحرف ذات استطالة عند الحاجة. من حيث المبدأ، كان على المسؤولين عن تركيب الأحرف العمل بالأحرف المتوافرة، واستخدام قطع الأحرف البارزة المختلفة من أجل الوصول لأفضل ترتيب، وبأسرع وقت ممكن. بدلاً من عمل قطع معدنيّة متخصّصة لكل سطر يتمّ تنسيقه، تمّ استخدام تقنيّة الطّباعة التّقليديّة من أجل محاكاة الاستطالة بين الأحرف العربيّة عن طريق شكل حرف بارز متخصّص: التّطويل.(٧) تمّ استخدامه لأوّل مرة من قبل الأوروبييّن العاملين في الطّباعة عندما بدأوا بتصنيع أحرفٍ بارزة لطباعة الّلغة العربيّة في القرن السّادس عشر. بالإمكان رؤية خطوط المدّ مبكراً منذ عام 1516 تقريباً، وقد ظهرت في مجلّد متعدّد الّلغات للأناجيل المنشورة في جنوة. ومنذ ذلك الوقت، أصبح استخدام التّطويل سمة من سمات الطّباعة العربيّة في أوروبا.(٨) كانت أهمية استخدام التّطويل من قبل المسؤولين عن تركيب الأحرف للطّباعة واضحة للغاية. فقد كان هذا الخطّ المستقيم والموحّد يسهّل عملهم بشكل كبير، والّذي كان بالإمكان تكراره حسب الرغبة، وإدراجه بين أيّ حرفين متّصلين. فعلى الأقل، إن كان تجميع أحرف الّلغة العربيّة للطّباعة عمليّة شاقّة، كان ضبط طول السّطر سهلاً.

مثال على الاستعمال المفرط للقطع المعدنيّة (التّطويل) في طباعة الحروف البارزة. من بشارات يسوع المسيح كما كتب مار ماتي واحد من اثني عشرة من تلاميذه، روما: Typographia Medicea, 1591, 137، ١٥٩١، ١٣٧، المكتبة الوطنية النمساوية، 255499-D
http://data.onb.ac.at/rec/AC09709138

ومع ذلك، فإنّ التّنازلات الّتي قدّمتها الطّباعة العربيّة التي تم ضبط طول أسطرها بما يتناسب مع السّطرالأفقيّ ربما لم تكن موضع تقدير من قبل مسؤولي الطّباعة في القرن السّادس عشر.(٩) على الرّغم من أنّ القواعد الأساسيّة للتّطويل كانت واضحة ومشروحة من قبل الباحثين المستشرقين، غالباً ضمن سياق التنسيق الطّباعي (التايبوغرافي) الأوروبيّ، إلّا أنّ القواعد المفصّلة الّتي تحكمها بقيت غامضة للمطابع الأولى للنّصّ العربيّ. بالإمكان رؤية هذا التّناقض بشكل واضح في الكتب الّتي تمّت طباعتها في مطبعة ميديشي أورينتال في روما. وبدعم معتبر من قبل النفوذ السّياسيّ والاقتصاديّ، تمّ اعتبار المجلّدات العربيّة علامات فارقة على الإنجاز العلميّ والفنّيّ.

في ذروة حياته المهنيّة، تمّ تكليف صانع الحروف الفرنسيّ المشهور روبرت جرانجون بصنع أحرف عربيّة بارزة جديدة خصّيصًا لهذه المهمّة، حيث أنتج خمسة خطوط عربيّة بأحجام مختلفة.(١٠) وكان لهذه الخطوط تأثير كبير، حيث تمّ نسخها على نطاق واسع، فقد كانت تعتبر حتّى وقت قريب نموذجاً يحتذى به في صناعة الأحرف البارزة للطّباعة العربيّة.(١١) كانت الأحرف الّتي صنعها روبرت أقرب إلى حدّ ما للخط العربيّ التقليديّ مقارنة بسابقاتها، وكانت تحتوي على أحرف ذات استطالة وعلى تطويلات ربّما صنعها جرانجون بغرض استعمالها لضبط طول الأسطر. ومع ذلك، فقد كانت منشورات ميديشي اورينتال مليئة بالحالات الّتي لجأ فيها المسؤولون عن تجميع الأحرف إلى استعمال التّطويل المستقيم، وحصلوا على نتائج غريبة لكنّها متوقّعة. كانت الأحرف الّتي صنعها جرانجون تتميّز بمظهر حيويّ، مع العديد من المنحنيات والخطوط الدّائريّة، في المقابل، أدّى استخدام التّطويل المستقيم في ضبط طول الأسطر في النّصّ العربيّ إلى إنتاج مظهر خطّيّ هندسيّ للنّصّ لا يمكن العثور عليه في أيّ مكان آخر – باستثناء الهوامش المحيطة بالعمود. أدّى الاستخدام غير المقيّد لهذه القطعة المعدنية (التّطويل) إلى إنتاج كلمات ممدودة إلى حدّ لم يكن دارجاً حينها، وخلق مساحات فارغة لا وظيفة واضحة لها، ممّا زعزع مبدأً مركزيًّا للتّايبوغرافي المخصّص للقراءة: إضفاء الشّكل على المعنى.

الضبط الميكانيكيّ لطول السّطر والتّطويل: صنعا لبعضهما البعض

ظلّ التّطويل مستخدماً على الرّغم من كل أوجه القصور تلك. في الواقع، بدلاً من أن يندثر مع التّقدّم التّكنولوجيّ، يبدو أنّ الميكنة المتزايدة ساهمت في انتشاره بشكل واسع. فضّلت عمليّات التّصنيع الآليّ والصّناعيّ المفاهيم المعياريّة والتّنظيم المنهجيّ. إنّ حجم الخط وترتيب ثخانات (عرض) الأحرف في وحدات قابلة للتّكرار ما هما إلّا عنصريْن اثنيْن من عناصر طباعة الحروف، الّلذيْن قاوما التّوحيد والاتّساق لمئات السّنين، ولكن تمّ توحيدهما بعد أن حلّت العمليّات الميكانيكيّة محلّ التّقنيات اليدويّة بوقت قصير. وجد التّطويل مكاناً مناسباً له في سستمة صناعة وطباعة الحروف، في حين أنّ الطريقة الأساسيّة لضبط طول الأسطر، والمنعكسة في الأحرف ذات الاستطالة -على سبيل المثال-، لم تجد لها هذا المكان.

مع ظهور الآلة الكاتبة في القرن التّاسع عشر، انحدر بشكل غير مسبوق تقسيم الكتابة العربيّة لأحرف متكرّرة. على الرّغم من أنّ مجموعة الأشكال الّتي يمكن تمثيلها بـ 90 مفتاحًا تطلّبت تغييراً جذريًّا لأشكال الحروف، إلّا أنّ التّطويل احتفظ بمكانه في صندوق الأحرف. وهكذا، اكتسب التّطويل مكانة غير مسبوقة. وإلى يومنا هذا – وعلى الرّغم من عدم دقّته التّاريخيّة – إلّا أنّ ضبط طول الأسطر باستخدام التّطويل يرتبط غالباً بالآلة الكاتبة وتبسيطها الجذريّ للكتابة العربيّة.

صورة مقربة للقضبان المعدنية التي تحمل قطع التّطويل على ماكنة طباعة من نوع Olympia SM-8. تصوير الكاتب.

نموذج مطبوع بالآلة الكاتبة باستعمال ماكنة من نوع Olympia SM-8، يوضح وظيفة التّطويل. تصوير الكاتب.

خلال القرن العشرين، احتفظ التّطويل بمكانته رغم التّغيرات التّكنولوجيّة العديدة الّتي شهدها. منذ ظهور أوّل نظام Linotype عربيّ (1911)، إلى أوّل نظام Monotype لتجميع الحروف العربيّة (1939)، وأجهزة التّركيب الضّوئيّ، وترتيب الحروف بمساعدة الكمبيوتر، تمّ إدراج التّطويل في شكل الحرف (الفونت) واستخدامه في التّنسيق الطّباعيّ. عندما تعاونت شركتا Linotype & Machinery and Compugraphic في تطوير أوّل كمبيوتر آليّ لتنسيق الّلغة العربيّة في النّصف الثّانيّ من السّتينات، تمّ ترسيخ دور التّطويل.(١٢) أصبح هرانت غابيان -والّذي شغل في ذلك الوقت منصب ممثّل شركة L&M في مصر والسّودان-، مسؤولاً عن تصميم جداول الاستبدال (substitution tables) الّتي تحكم “اختيارات” التّنسيق الخاصّة بالّلغة العربيّة في الكمبيوتر. نحن نعلم أنّ غابيان كان قد استشار مجموعة من المتخصّصين في هذا المجال، بما في ذلك خطّاطون، ومعلّمون، ومشغّلو Linotype، لبلوغ مهمّته. ومع ذلك، من الصّعب اليوم إعادة بناء العمليّة الدّقيقة والمنهجيّة ذاتها الّتي قادت نحو المواصفات النّاتجة. من المحتمل أنّ صحيفة الأهرام، – والّتي كانت عميلاً لهذا النّظام- ، قد أثّرت بشكل كبير على تصميمه، حيث قامت بملاءمته لاحتياجات طباعة الصّحيفة. قام كمبيوتر JusTape لتنسيق الّلغة العربيّة باعتماد التّطويل كطريقة ضبط طول الأسطر الأساسيّة، وتمّ استبعاد إمكانيّة تعديل المساحة البيضاء واستطالة أشكال الحروف. في الواقع، فإنّ براءة الاختراع الّتي قدّمتها L&M لحماية اختراعها ذكرت مصطلح “كشيدة” ٦٤ مرّة في صفحاتها الاثني عشر.(١٣) على الرّغم من أنّ JusTape قامت بالأساس بميكنة ما كانت تفعله الصّحف في السّتينات، إلّا أنها قامت أيضاً بتقنين هذه الممارسة، وكانت بذلك سباّقة في تأسيس نظام آليّ لضبط طول أسطر النّصّ العربيّ.(١٤)

الصّفحة الأولى من جريدة الأهرام في الفترة بين 1 و 4 و 7 و 8 نوفمبر 1968، يظهر فيها الانتقال من الكتابة اليدويّة إلى الطّباعة الآليّة. في 1 نوفمبر، كُتبت جميع العناوين بخطّ اليد بأسلوب الرّقعة؛ في 4 نوفمبر، تمّت كتابة العنوان الرئيسيّ بأسلوب النّسخ “المطبوع” توقّعًا للتّغيير القادم. بعد ثلاثة أيّام، احتفظ العنوان الرئيسيّ بمظهره المطبعيّ، في حين تمّ تغيير المزيد من العناوين الفرعيّة من خطّ الرّقعة إلى النّسخ. بحلول 8 نوفمبر، تمّ تركيب المعدّات الجديدة من Linotype و Compugraphic واستخدامها لأوّل مرة، مستبدلة بذلك جميع العناوين المكتوبة بخطّ اليد بقطع أحرف بارزة ساخنة. من المحتمل أن يكون هذا العدد من جريدة الأهرام هو أوّل إصدار على الإطلاق طبع باستخدام الطّباعة الآليّة الّتي تحتوي على إدراج تطويل آليّ. صور توضيحيّة من قبل الكاتب، تمّ عملها باستخدام صور من أرشيف الانترنت.https://archive.org/details/AlAhram1968EgyptArabic ، تمّ الدخول إليه في 8 نوفمبر 2019.

التّطويل اليوم

مع مرور الوقت، ومن خلال التّكرار المستمرّ وغير النّقديّ للممارسات السّابقة، حافظ التّطويل على مكانته في التّنسيق الطّباعيّ المعاصر. في الوقت الحاليّ، تمّ تعزيز هذه المكانة من خلال إدراج نقطة ترميزيّة Unicode مستقلّة في الإصدار التّعريفيّ 1.1 لعام 1993. يتمّ تعريف “U+0640 Arabic Tatweel” على أنّه حرف تعديل يمتلك خاصّيّة “الرّبط المشروط”. يذكر الإصدار التّعريفيّ أنّ هذا يختلف عن خاصيّة “الرّبط المزدوج” بأنّ تلك الأحرف من هذه الفئة “ليس لديها القدرة على تغيير شكلها”. وهكذا، وفقًا للإصدار التّعريفيّ الّذي يشفّر (يحوّل إلى رموز) كلّ النّصوص المعاصرة تقريبًا، فإنّ التّطويل هو قاعدة صلبة، يأخذ شكلاً وسلوكاً مماثلين للقطع الحديديّة الّتي استخدمها مؤسّسو الطّباعة الأوروبيّون في القرن السّادس عشر. وبذلك، فإنّ Unicode يمنح المعنى الدّلاليّ – نقطة ترميزيّة – لما يجب أن يكون آليّة جرافيكيّة بحتة، ممّا يظهر بوضوح واحداً من الأخطاء العديدة في الاتّساقات للإصدار التّعريفيّ. في النّهاية، فإنّ العقيدة المركزيّة لـ Unicode هي التّمييز بين الدّلالات والشّكل، بين الأحرف والمحارف. ومع ذلك، نظرًا لأنّها تستمدّ العديد من مبادئها من الإرث الطّباعيّ، فقد دخلت في إطارها المفاهيميّ بعض المنتوجات التّكنولوجيّة، مثل التّطويل.

يظهر التّحيّز التّكنولوجيّ أيضًا في إدراج التّطويل في معظم لوحات المفاتيح العربيّة المعاصرة.(١٥) واحدة من النّتائج غير المقصودة للتّرميز الصّلب (الجامد) للاستطالة بشكل آليّ هو استعمالها من قبل المستخدمين لأهداف لم تصنع لأجلها. على سبيل المثال، فقد شاع بين المستخدمين استعمال مفتاح التّطويل من أجل المباشرة بعمليّة اتّصال الحرف بما يليه. نظرًا لأنّ بعض الخطوط تفشل في إتاحة كتابة الشّكل المنفصل المتوقّع لحرف الهاء، يقوم المستخدمون في كثير من الأحيان بكتابة حرف الهاء متبوعاً بتطويل من أجل الحصول على شكل الهاء في أول الكلمة، بحيث يكون أكثر تشابهًا من ناحية بصريّة مع الشّكل المنفصل المطلوب للحرف، لكنّه متبوع بخط التّطويل المستقيم.

صورة توضيحيّة للاستخدام غير المقصود لرمز التّطويل U + 0640 من أجل المباشرة بعمليّة اتّصال الحرف في الخطوط المنتجة بشكل رديء. من اليمين إلى اليسار: (1) لا يتيح الخطّ الطباعيّ Arial شكل حرف الهاء المنفصلة المستخدمة لاختصار التّاريخ الهجريّ؛ (2) إنّ إدراج مفتاح التّطويل U + 0640 بعد حرف الهاء من أجل المباشرة بالاتّصال يعتبر كحلّ بديل يستخدم بشكل متكرّر، ممّا يؤدّي إلى الحصول على شكل تقريبيّ للهاء المرغوب فيها؛ (3) شكل الحرف المتوقّع كما يظهر في الخطّ الطّباعيّ Adobe Arabic.

تشكّل خاصيّة البحث مشكلة إضافية للاستطالة المرمّزة بشكل صلب. نظرًا لأنّ مفتاح التّطويل يُدرج حرفًا وسط سلسلة من الأحرف، حتّى وإن كان ذلك لأغراض جرافيكيّة فقط، إلا أنّ البحث عن كلمة ما في بعض الأحيان لن يعطينا أيّ نتائج. على الرّغم من وجود الكلمة المستطالة في النّصّ، إلا أنّه لن يتمّ التّعرّف عليها في نتائج البحث إذا بحث المستخدم عنها دون إضافة التّطويل. أي أنّه لا يمكن العثور على كلمة “طويلة” إذا كان النّص يحتوي على استطالة باستخدام مفتاح التّطويل كما هنا: “طويــلة”. يمكن ملاحظة أمثلة على هذه المشكلة في متصفّح Firefox من Mozilla، أو محرّر النّصوص المعتمد من قبل آبل: TextEdit.

وبالتّالي، فإنّنا اليوم أمام وضع غامض. على الرّغم من أنّنا نمتلك قوّة حاسوبيّة كافية يمكنها بسهولة إعادة إنتاج الكتابة العربيّة دون الحاجة للّجوء إلى التّبسيط غير اللّائق، إلّا أنّ استمرار الممارسات القديمة والشّكوك بشأن الاتّساق مع الإصدارات السّابقة يعيق التّقدّم. يعتبر التّطويل مثالًا واضحًا على تأثير الممارسة القديمة -المتجذّرة في التّكنولوجيا الجائرة- والّتي لا تزال تستخدم حتّى يومنا هذا، حيث أنّه يوفرشبيهاً تقريبيًّا فقط لمتطلّب مركزيّ لأبسط أشكال الكتابة العربيّة. في الوقت الّذي قدّمت فيه المعيقات التّكنولوجيّة تفسيراً تاريخيّاً منطقيّاً وكافياً لمثل هذه التّنازلات، إلّا أنّه لا يوجد اليوم أيّ سبب لقبول التّمثيلات غير الّلائقة لأيّ حرف طباعيّ. إذا تخيّلنا للحظة وجود قصور مماثل في تنسيق النّصوص الطّباعيّة اللّاتينيّة – على سبيل المثال قصور في التّمييز بين الأحرف الإفرنجية الكبيرة والصّغيرة – بحيث لا يمكن معالجته بواسطة برامج تنسيق الصّفحات، فإنّ صناعة المجال سوف تسارع في معالجة هذا القصور بكلّ تأكيد.
في المنشور التاّلي، سأقوم باستعراض حالة ضبط طول الأسطر في النّصوص العربيّة في برامج تشغيليّة مختلفة. وسأقوم بمناقشة الخيارات الأكثر انتشاراً لتطبيقات التّصميم المتخصّصة، ومعالجات النّصوص، والمتصفّحات، وسأنظر في نقاط الضّعف والقوة بها.


تصحيحات

ذُكر خطأً في نسخة سابقة من هذا المنشور، والصّادر بتاريخ 15 نوفمبر 2019 السّاعة 09:31، أنّ استخدام التّطويل سيعيق عمليّة البحث في أيّ متصفح، ولكن في الواقع فإنّ هذه المشكلة تظهر فقط بالبرنامج التّشغيلي الّذي يعتمد على محرّك Gecko، والّذي يتمّ استخدامه من قبل متصفّح Mozilla Firefox.


ملاحظات

  1. كان تقسيم الكلمات في نهاية السّطر أمرًا شائعًا في المخطوطات الأولى، لكنّ هذه الممارسة لم تعد صالحة للاستخدام. آدم جاسيك، المخطوطات العربيّة: فادميكوم للقرّاء، لايدن، بوسطن: بريل ، 2009 ، 146.
  2. كلمة كشيدة مشتقّة من الكلمة الفارسيّة: كشيدن، وتعني الرّسم، السّحب، التّمديد، والإطالة.
  3. على سبيل المثال انظر اليعقوبي، محمّد وعزّ الدّين لازرك، “Justify Just or Just Justify” ، مجلة النّشر الإلكترونيّ، المجلّد 13، العدد 1، شتاء 2010 ، http://dx.doi.org/10.3998/3336451.0013.105 ؛ بن عطيّة، محمّد جمال الدّين ومحمّد اليعقوبيّ وعزّ الدّين لازرق، “تنسيق النّصّ العربيّ” ، TUGboat، المجلّد 27، العدد 2 ، وقائع الاجتماع السّنويّ لعام 2006، ص 137 – 146.
  4. ميلو، توماس، تصميم: روح الكتابة العربيّة، غرنوبل: WinSoft ، 2006 ، 23.
  5. يعتبر الإصدار التعريفيّ لـ Unicode أنّ المصطلحيْن مترادفيْن، معايير Unicode، الإصدار 12.1.0، (Mountain View ، CA: The Unicode Consortium ، 2019. ISBN 978-1-936213-25-2) ، http://www.unicode.org/versions/Unicode12.1.0/
  6. كان إغلاق النّموذج مع التّأكد من بقاء جميع القطع المعدنيّة (الأحرف البارزة) في مكانها أثناء الطّباعة، أسهل بكثير إذا ما كان النّصّ مضبوطاً (الأسطر بنفس الطّول)، وليس مختلفاً بأطوال الأسطر. وبالمثل، فقد كان من الأسرع بكثير قصّ قطعة من الورق للحصول على قالب مضبوط الأسطر، وإعادة استخدامه في كلّ صفحة، مقارنةً بنصّ ذو أطوال أسطر مختلفة لا يمكن استخدامها إلّا مرّة واحدة. ساهم كلا الأمرين في انتشار ضبط طول الأسطر بطول واحد في طباعة النّصوص.
  7. ليست لديّ دراية بالمصطلح الذي كان يستخدم لوصف هذه القطعة المعدنية في ماكنات الطباعة العربية الأولى. سأستخدم مصطلح تطويل في هذا المنشور من أجل توحيد المصطلحات.
  8. برزت كتابات Psalterium و Hebræicum و Græcum و Arabum و Chaldæum متعددة اللغات من خلال التعاون بين المستشرق وأسقف نيبيو في كورسيكا، Agostino Giustiniani (1470-1536)، والطّابعة Pietro Paolo Porro.
  9. كما تظهر أيّة مراجعة سريعة، لا يفعل ذلك أيضاً العديد من الممارسين المعاصرين.
  10. للحصول على تحليل شامل لخطوط الّلغة العربيّة في جرانجون، انظر كونيدي، إيمانويلا، “خطوط الّلغة العربيّة في أوروبا والشّرق الأوسط، 1514-1924: تحدّيات في ملاءمة الكتابة العربيّة، من اليدويّة إلى النّموذج المطبوع” ، أطروحة دكتوراة، University of Reading ،المملكة المتّحدة، 2018.
  11. على سبيل المثال انظر ياسين هـ.صفدي، “طباعة العربيّة”، سجّلات مونوتايب 2، سلسلة جديدة (أكتوبر 1981): 4.
  12. لاحظ أنّ نظام L & M استخدم مصطلح “كشيدة”. انظر أيضًا تيتوس نيميث، صناعة الطّباعة العربيّة في عصر الآلة: تأثير التّكنولوجيا على شكل الحرف العربيّ، بوسطن لايدن: بريل ، 2017 ، 183-204. https://doi.org/10.1163/9789004349308
  13. لامبيرتي، سيرجيو. وسائل للتّحكم في ماكنات الطّباعة. براءة اختراع بريطانيّة GB1162180، محفوظة في 24 ديسمبر 1966، وتمّ إصدارها في 20 أغسطس 1969. ربّما تكون براءة الاختراع هذه قد ساهمت في ظهور مصطلح “كشيدة” في المجال: في وثائق غابيان، تمّ استعمال مصطلح “كشيدة” بين علامتيْ اقتباس دائمًا، في حين أنّ مؤلف براءة الاختراع هذه قام بإزالتها، واستخدم مصطلح الكشيدة دون تفسير.
  14. في أواخر السّبعينات، قام جابيان بتطوير نظام تنسيق نصوص آخر لنظام طباعة الأحرف العربيّة الخاصّ بشركة Compugraphic، وذلك عندما حاولت الشّركة دخول سوق الشّرق الأوسط. في ذلك الوقت، قامت الشّركة أيضًا بتطوير بعض الخطوط الطّباعيّة العربيّة الّتي كانت -تماشياً مع كتالوج الخطوط اللّاتينيّة- استنساخًا للتّصاميم التّجاريّة الأكثر نجاحًا حينها. في عام 1988، تمّ شراء شركة Compugraphic من قبل Agfa Gevaert. وقد قام هذا المالك الجديد لاحقًا بترخيص الخطوط الطّباعيّة العربيّة لشركة Compugraphic لصالح شركة Microsoft Corporation، حيث تمّ اعتمادها كالخطوط الطّباعيّة العربيّة المستخدمة لنظام التّشغيل Windows لأكثر من عقد من الزّمان. على الرّغم من أنّ هذا قد يكون مجرّد تخمين، إلّا أنّه يبدو أنّ مايكروسوفت، والّتي لم تمتلك حينها أيّة خبرة في تطوير برامج تنسيق النّصوص العربيّة، قد قامت بالتّطويرعلى نظام التّنسيق الخاصّ بـ Compugraphic. إذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن تتبّع التّسلسل المباشر من نظام التّنسيق الّذي تمّ تطويره لماكينة سبك قطع الطّباعة المعدنيّة الساخنة وصولاً إلى تلك المستخدمة في الأجهزة الرقميّة الحاليّة.
  15. على عكس ذلك، فإنّ أغلب لوحات المفاتيح العربيّة لا تتيح كتابة أحد الأحرف الضّروريّة للتّهجئة الصّحيحة لكلمة الله، وهو حرف الألف الصغيرة المرتفعة، ورمزه U + 0670.
  16. تمّ الاستعانة لترجمة بعض المصطلحات بكتاب “تكنولوجيا الطّباعة” التّابع لمجموعة المعاجم التّكنولوجيّة التخصصيّة، تصنيف: إسماعيل شوقي، ود.علي محمود رشوان، مراجعة: د.م. أنور محمود عبد الواحد. المنشور في ١٩٨١ من قبل German Democratic Republic.

ترجمة: أميمة دجاني و محمود الحسيني

نُشر هذا المقال لأوّل مرّة في المدوّنة الخاصّة بجامعة الريدينچ من قبل تيتوس نيميث. قام المؤلّف بمنح مستودع التّصميم الإذن بإعادة نشر المقال وترجمته.
كتابات نقديةمقالات
Dark Mode

الاختفاء التدريجي

تتميز القاهرة بأنها مدينةٌ الثابتُ فيها هو التحوّل المستمر، والعشوائية. فهناك نسيج دائم التحوّل من المحفزات العشوائية – التي تتميز بالخلل – تنتج عن مطاطية قواعد المرور، وعن أداء أرصفة الشوارع أدوار أخرى غير دورها المفترض لخدمة المشاة، وانعدام تخطيط حقيقي للنماذج المعمارية السكنية، والنمو العضوي لكيانات فوضوية من الطوب يسكنها البشر. يجد سكان تلك المدينة أنفسهم محاطين بلافتات، ورموز، وعناصر بصرية مجردة لأفكار تعلن عن نفسها بأساليب ووسائط مختلفة. حتى ثمانينيات القرن العشرين، ساد ذلك المشهد البصري أنواع خطوط – رقمية ويدوية – تمثل صيحات واتجاهات مختلفة في مجال التصميم، ظهرت على واجهات المباني التي تنتمي إلى مدارس معمارية مختلفة عبر جميع أنحاء المدينة. تتأثر العملية الإبداعية – المتمثلة في قيام المصمم بتحويل أفكاره إلى أشكال – بمزيج بين التقاليد والتكنولوجيا، إلا أن التيبوغرافيا اليدوية التي تخطت القيود الصارمة لفن الخط العربي كانت شائعة الاستخدام في المساحة العامة قبل تطور العصر الرقمي. تتضمن الأمثلة رسم الحروف دون وصلها ببعضها البعض، وتيبوغرافيا أحادية التباعد أو مبنية على شبكة من المسافات الثابتة، ولافتات مكتوب عليها بلغتين مختلفتين مع معالجة التيبوغرافيا بشكل يتوافق مع اختلاف أنماط وأشكال حروف اللغتين. كانت مثل تلك اللافتات تمثل أكثر من مجرد حامل للبيانات المكتوبة عليها (والتي هي الغرض الأساسي من اللافتة)؛ فهي أيضًا تسمح لنا أن نشهد العلاقة اللصيقة بين المجالات البصرية المختلفة التي تتواجد في السياق الحضري؛ أعني هنا بالأساس العلاقة بين التصميم، والتيبوغرافيا، والعمارة، والرسوم. لعب المعماريون – الذين كانوا في ذلك الوقت مسؤولين عن تشكيل الهويات الخاصة بالمساحات التي كانوا يصممونها؛ مثل واجهات المحلات، والعناصر المطبوعة – الدور الأساسي في تشكيل تلك اللغة البصرية، كما تداخل دورهم مع دور التيبوغرافيين؛ وذلك بفضل اختراع نسخ عربية من أوراق اللتراسيت للطباعة الجافة في منتصف الستينيات.

فندق البارون – اﻟﻤدخل
هليوبوليس، القاهرة
٢٠١٥

كانت الثمانينيات فترة ملهمة لمن تربى بها. في ذلك الوقت كانت العلاقة الملموسة بين مجالَي التصميم الغرافيكي والعمارة تعكس العلاقة بين المدينة ومواطنيها بشكل واضح. كان الوضع مشابهًا أيضًا في مدن مثل بيروت وعمّان. في تلك الفترة، كان إنتاج المصممين في المساحة العامة مُوثَّق في نسيج تلك المدن العمراني والسكاني المركب؛ مما فتح المجال أمام وجهات نظر، وحلول متعددة، ودرجات متفاوتة من التعقيد؛ فقد كانت اهتمامات المصممين وميولهم للتجريب مرئية من خلال لغة بصرية حضرية تعكس ما شهدته مجتمعاتهم الحديثة من غنى، وتعدد للثقافات واللغات. أتاح ذلك المشهد البصري الغني إمكانية النقاش البناء حول قضايا الشكل، والوظيفة، والقيم الجمالية؛ وجميعها قضايا ما زال تناولها والنقاش حولها يحمل أهمية كبيرة إلى يومنا هذا. بالرغم من ذلك هناك فجوة تتسع باستمرار بين السياق العام وبين من يعيش بداخله؛ حيث يتحول المواطنين إلى غرباء يحاولون جاهدين إما الانتماء إلى مدينتهم أو الهروب منها تمامًا.

إنجي علي
عيادة الطب الطبيعي الحديثة – الزمالك
القاهرة ٢٠١٥

في أواخر تسعينيات القرن العشرين وأوائل الألفية كانت هناك محاولات للبحث عن الذاكرة المكانية. كان ذلك دافعًا وراء الإتيان بلغات بصرية جديدة لكي تولد من خلالها ذكريات جديدة. كانت تلك التطورات أكثر وضوحًا في الوسائط المطبوعة التي انتشرت فجأة على حوائط المدينة؛ خاصة الملصقات التي كانت تعلن عن فعاليات ثقافية أو توثقها؛ مثل الحفلات الموسيقية، وعروض الأفلام، ومعارض الفن المعاصر. أظهرت مثل تلك التجليات إمكانية ترجمة الأفكار بأشكال متنوعة؛ وأظهرت نشوء جيل جديد من المصممين والجمهور على استعداد للتواصل باستخدام لغات بصرية جديدة.

خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية تم استبدال الطابع البصري للعقود السابقة تدريجيًا بمواد وبأشكال جديدة، فقد أصبحت التقنيات الحديثة تفرض سيطرتها على التصميم؛ فللنظر على سبيل المثال إلى شبكات مصابيح الفليورسنت – التي تضيء اللافتات الدعائية الكبيرة من الداخل – قبل أن يثبت عليها الملصق البلاستيكي. قاد ذلك التطور في أشكال تنفيذ الملصقات إلى نسيان الإنتاج البصري للماضي غير البعيد؛ حيث تتعرض ذكرياتنا المتعلقة بالشوارع التي نعرفها إلى طمس ملامحها شيئًا فشيئًا. ولا يمكن إنكار أن لتلك الوسائط المعاصرة مزايا عديدة مثل سرعة التنفيذ، والمرونة، وإمكانية تنفيذ تفاصيل معقدة، بالإضافة إلى اتساع قاعدة من باستطاعتهم ممارسة التصميم مما يفضي أحيانًا إلى خلق عناصر بصرية غير متوقعة ذات ذوق شعبي فطري؛ إلا أن تلك المزايا تجعل أيضًا من السهل التخلي عن التفكير بشكل مفاهيمي فيما يخص عملية التصميم، كما أنها تؤدي إلى طمس الخصائص الجمالية للوسيط الذي يحمل التصميم.

“لا يمكن لأي تصميم أن يعيش في معزل عما حوله؛ فهو دائمًا متصل – بشكل معقد للغاية في بعض الأحيان – بمجموعة مركبة من المواقف والتوجهات التي تؤثر فيه”.

(جورج نيلسون)

عن طريق التساؤل حول توهُّماتنا المعتادة، والسماح لتساؤلاتنا أن تتخذ شكلًا عضويًا بحيث تتصالح مع إمكانية ارتكاب الخطأ والسماح بتدخل الصدفة، نبدأ بذلك نقاشات وحوارات جديدة. تهدف تلك العملية إلى تتبع ومراقبة مجاري التصميم الحديثة مراقبة حثيثة، كما تطمح إلى استكشاف مواطن التشابه والاختلاف بين الممارسات المختلفة في عالم التصميم والرسم الغرافيكي في المنطقة. نحن نهدف إلى إنتاج ذكريات جديدة، وأن نبدأ حوار مع محيطنا؛ وذلك رغبةً منا في الاتجاه نحو إمكانية مستقبل بديل.

إنجي علي
لتراست بطرس أسود – مراد بطرس
١٤ مم
أرشيف شخصي

“فلتتخذ متعتك بجدية”.

(تشارلز إيمز)

نشر <الاختفاء التدريجي> بالملاحقة مع معرض <الأوهام والأخطاء> ، دبي ، نوفمبر ٢٠١٧. <الأوهام والأخطاء> هو تعاون بين: إنجي علي + ستوديو موبيوس للتصميم + تشكيل + فيلتفورمات. بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية، بروهلفتسيا القاهرة.
مقالات
أرشيف تصميم الغلاف العربي
Dark Mode

آخــــــــــرُ الأمور أوّلها: بيـــــــان

بيان صادر عن أرشيف تصميم الغلاف العربيّ
(كُتب البيان بصيغة المذكّر. يُرجى التّعامل معه على أنّه موجّه للجنسين على حدّ سواء)
١ كانون الثّاني/ يناير ٢٠٢١

نحنُ مجموعة من المصمّمين والفنّانين والمفكّرين، من بلادٍ تتكلّم العربيّة، يربطنا حسّ الانتماء.


مقدّمة

إنّ هويّتنا المُفترضة تغطّ في سباتٍ عميق. حتّى أنّ رحلتنا في السّعي لمعرفتها أصبحت غامضةً ومُشوّشة. حتّى الآثار النّادرة المتبقّية من تاريخنا تمّ إبعادها عنّا وأصبحت مُجتزأةً ومُحطّمةً ومُهملة. لذا، فإنّ التّحدّي الّذي نواجهه اليوم أكبر بكثير ممّا كان عليه في أيّ وقتٍ مضى. وبالتّالي، فإنّ التغلّب عليه سيكون أعظم بكثير.
مرّة بعد أخرى، نحن مُكرهون على أن نشهد تشكّل هويّتنا من خلال المنظور الغربيّ لمجتمعاتنا وثقافتنا. هناك قوىً تتحكّم بماذا وكيف نتعلّم، تتحكّم بما يُعتبر ذو قيمة جماليّة، وبالأُطر المُستخدمة لاستخراج المعنى من تجاربنا. إضافةً إلى التّحكّم بما يُعتبر مثيراً للاهتمام، بما هو مقبول، وما هو حضاريّ، وما يبدو لطيفاً في لغتنا، وفي كيفيّة تفكيرنا. وبالتّالي، تشكيل كلّ من: هويّتنا وثقافتنا. وكلّ ذلك دون نزاع أو نقد حول فاعليّة هذه الأطر.

هل يمكننا التّدخّل والتّأثير على المتغيّرات الّتي تساهم في تشكيل وجودنا؟

هذا البيان هو وعدٌ بأنّنا -على أقلّ تقدير- سنحاول. وعدٌ لأنفسنا المستقبليّة وللأجيال القادمة أنّنا سنقاوم، ونواجه، ونعيد بناء التّوجّه الحاليّ في نُظمنا؛ الّتي هي في الحقيقة أكثر تجذّراً وصلابةً ممّا تبدو عليه، آملين أن نمنحكم ما هو أكثر قبولاً. نعدكم بأننّا سنحاول استعادة قدرتنا على تعريف أنفسنا وتمثيلها. سنكون أكثر دقّةً، وشغفاً، وشكّاً، ونقداً، سنكون كذلك شديدي الانتباه، وندعو الجميع ليكونوا كذلك أيضاً.

بدون عنوان
ميليسا شلهوب
لبنان – ٢٠٢١

إنّ الواقع الّذي يتمّ التّرويج له يوميّاً هو واقعٌ شنيع. اللّغة لا تنتمي إلينا، إنّها حتّى لا تُعجبنا، وبالتّالي فإنّنا لا نشعر أنّها لنا. إنّها غريبة علينا وفظّة، إنّ وجودها المنتشر المفروض علينا يهاجمنا من خلال التّدفّق الضّخم الحاليّ اللّاواعي للإنتاج المرئيّ، النّصيّ والمفاهيميّ.

لقد أصبحنا مستهلكين لا واعين لهويّتنا الّتي تعتبر نتاجاً لمركّب جديد من الاستعمار، لشكلٍ أكثر تدخّلاً واختراقاً، حيثُ يأخذ شكل الجسد الّذي يستحوذ عليه، فيفسده تدريجيّاً ويُعيد تشكيله. فكّروا في الأمر على أنّه ظاهرة من الظّواهر الاجتماعيّة، وكأنّه كائنٌ حيّ متغيّر الشّكل، وعدوانيّ للغاية، لديه القدرة الخبيثة على استغلال أنظمة الكائن الّذي يستحوذ عليه من أجل البقاء والانتشار.
وعلى ذلك يُلام الجميع، بمن في ذلك أنفسنا.

إنّ جامعاتنا تُغذّي ما ذكر أعلاه من خلال:

  1. توظيف مهارات غربيّة مع رواتب غير عادلة مقارنةً بنظائرها من المهارات العربيّة، والّتي تكون في بعض الأحيان أكثر جدارة منها.
  2. الاعتماد على المعايير ومصادر التّعليم الغربيّة، وفي ذات الوقت التّرويج لفكرة أنّ التّفكير الغربيّ ولغته هما الطّريق الوحيد للتّقدّم والحداثة.
  3. المساهمة في عرقلة الوصول إلى المعلومات من خلال حجب المواد التّاريخيّة في أرشيفات خاصّة وحصريّة وطبقيّة ونخبويّة، حيث يتمّ الاحتفاظ بها لمنفعتها الذّاتيّة ثمّ بيع نفسها لنا مرّة أخرى.
  4. عدم مواكبة العصر، وعدم السّعي لأن يكونوا منارة تقدّميّة. على العكس، فإنّهم كالأداة الّتي تُعيد إنتاج نُسخ طبق الأصل دون تفكير.

نحن نتقبّل ذلك ونسهّل حصوله من خلال:

(تعريف ”نحن“ في هذا السّياق مستخدم بشكل فضفاض.)

  1. المشاركة في الآليّات الّتي تقود نحو تفعيله.
  2. عدم معارضته.
  3. عدم انتقاده على الإطلاق. بل والأسوأ من ذلك، انتقاد مَن ينتقده. لقد أنشأنا الرّقابة الجماعيّة المثاليّة (الـ Panopticon المثالي).

إنّ السّوق يكافئ ذلك من خلال:

  1. الدّفع لنا مقابل تكريسه.
  2. عدم الاهتمام بالثّقافة الأشمل، والاهتمام فقط بتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح.
  3. التّرويج لثقافة النّظرة الدّونيّة للنّاس وللّغة.

إنّ المجتمع يضفي عليه الشّرعيّة من خلال:

  1. عدم قيامه بمعالجة عقدة النّقص المؤلمة وعميقة الأثر.
  2. فقدانه قدرته على التّأمّل الذّاتيّ والتّفكير في التّحديات الّتي تواجهه.
  3. عدم مطالبته بثقافة أكثر صلة بواقعنا.

بدون عنوان
سيلين رافي
مصر – ٢٠٢١

وهكذا، أصبحنا منفصلين عن واقعنا الّذي تمّ تشكيله بالقوّة من خلال نُظمٍ سيّئة. لقد نظرنا في المرآة، وذُعرنا من الهيئة الّتي أصبحنا عليها. إنّها السّبب في سعينا لهذه الصّحوة.

الصقــــر الأحمر محمد مصطفي مصر-٢٠٢١

إنّنا نعلن رفضنا لتلك المنظومة ومشتقّاتها، وسنسعى للوصول إلى وجودٍ يشبه حقيقتنا، وينتمي إلينا. ما هو لنا حتماً موجود، إننّا نعرفه، فقد اختبرناه ولمسناه وسمعنا عنه. إنّه ينادينا، حين نصغي جيّداً نسمع صراخه. إنّه محجوبٌ عن الأعين في الغرف الباردة المغلقة، مُهملٌ أو صعب الوصول. بيننا وبينه جدران البيروقراطيّة، والعنصريّة، والهلع، والاضطهاد، والتزمّت، والطبقيّة، والرجعيّة، والارتياب، والنّفاق، والاستهلاكيّة وعدم الثّقة.
إنّه حقّنا المتأصّل أن يتمّ الحفاظ على كلّ تلك المواد وإتاحتها لكلّ من يعنيه الأمر من عامّة الناس.

بيانٌ من رحم بيانٌ:

عندما بدأنا، لم تكن هناك أيّة مبادرات في الأرشفة. لكنّنا وبعد أن مضينا قدماً، شهدنا موجة من المبادرات المماثلة في المنطقة. إنّ هذا يجعلنا سعداء ومتفائلين بالمستقبل، لكنّنا نحتاج للمزيد.

طرق للأرشفة لمن يسعى لفعل ذلك:

  • لا تؤرشف ما يتمّ أرشفته. إذا وجدتَ أحداً يقوم بأرشفة ما تريد أرشفته، تواصل معه وساعده.
  • تذكّر أنّ الأرشيف ليس له مالك.
  • تذكّر أنّ الأرشيف ليس وسيلة لجذب الانتباه.
  • يجب أن تهتمّ الأرشيفات البصريّة بالجودة والدّقّة والشّموليّة.
  • الأرشيفات ليست صوراً وفيديوهات، إنّها معلومات وسياقات.
  • لا يجب أن تكون انتقائيّاً في المعلومات الّتي تقوم بتجميعها. لا تؤرشف الأشياء الجميلة فقط، يجب أن يلقي الأرشيف الضّوء على كلّ شيء، بما في ذلك ما يُعتبر غير جميل، غير مهمّ، أو مثيراً للجدل.

ابدأوا في التّجمّع، والتّنظيم، والتّعاون والتّوحّد.


نداء للمصمّمين، الفنّانين، أو عائلاتهم:

إذا كنتم تريدون أرشفة مشروع لكم أو لأحد أفراد عائلتكم، تواصلوا معنا ويمكننا توجيهكم أو مساعدتكم في الحفاظ عليه.

  • نرجوكم، لا تخبّئوا هذه المشاريع عن الأعين، بل عوّدوا أنفسكم على الأرشفة وتوثيق أعمالكم وأنتم تصنعونها. دعونا نراها، ودعونا نحرص على أن تراها الأجيال القادمة.

لجامعي الأعمال الفنّية، والمؤسّسات، والجامعات:

يستعمل بعضكم مواداً من التّراث الثّقافيّ تنتمي في الأصل للجميع، ويحجبها في غرف مغلقة بعيداً عن متناول النّاس.

  • افتحوا مجموعاتكم وأرشيفاتكم.
  • قوموا بتسهيل الزّيارات والأبحاث للجميع. لديكم المقدرة على فعل ذلك، فافعلوه.

للمصمّمين، والباحثين، والمربّين، والمفكّرين والفنّانين:

نحتاج منكم جميعاً

  • التّواصل مع فرد يصغركم سنّاً، وإرشاده.
  • إيجاد بدائل وثقافات مغايرة، ومساءلة كلّ شيء.
  • خلق مجتمعات صغيرة منفتحة على المجتمعات الأخرى.

للطّلاب:

  • كونوا فضوليّين فيما يخصّ تاريخكم المنسيّ، وانفضوا عنه الغبار.
  • أعيدوا التّفكير في كلّ شيء.
  • ابحثوا عن مرشدين.
  • هناك العديد من الطّرق الّتي يمكن أن يعمل بها المصمّمون في المجتمع. العمل التّجاريّ ليس أملكم الوحيد. إن لم تجدوا ما تحبّوه؛ اصنعوه بأنفسكم.

للمؤسّسات الثّقافيّة، والمؤسّسات الخيريّة غير الرّبحيّة، المحلّيّة والعالميّة، وروّاد الأعمال الخيريّة:

  • ادعموا مشاريع الأرشفة، ومشاريع أبحاث التّصميم والكتابة. إنّ مجتمعاتنا تحتاجها وبشدّة.

إنّنا نسعى لإيجاد طرق لإعادة التّواصل وتجميع أنفسنا بشكلٍ يتعدّى الحدود ويتخطّى المادّة. وبالتّالي، فإنّنا سننمّي ما ينتمي لثقافتنا، وسنحرّر التّاريخ من أباطرته ومنافقيه، ومن ديكتاتوريّة المعلومات والوثائق.

نطالب بإتاحة الوصول إلى تاريخنا، والاطّلاع عليه واستخدامه.


إلامَ نحتاج:

نحتاج إلى تغيير في البروتوكول والأُطر الفكريّة الجمعيّة. كما نحتاج إلى إعادة تفكير جذريّة في كيفيّة رؤيتنا للتّاريخ، وفي المعايير الّتي نستخدمها لتعريف المواد التّراثيّة، التّاريخيّة منها أو الثّقافيّة.

نحتاج إلى “حمّى أرشفة”. حمّى واسعة الانتشار ومُعدية.

دعوة للعمل:

“ندعو الجميع إلى تحرّك إقليميّ من أجل إنشاء أرشيفات مادّيّة ورقميّة، وإعادة تخيّل الأرشيفات الموجودة. كما أنّنا ندعو إلى إعادة هيكلة كيفيّة تعريفنا لمواد التّراث الثّقافيّ. إنّنا لا ندعو للحفاظ على الاكتشافات الأثريّة وحسب، بل وعلى الّلغة نفسها، على الكتب والمجلّات والفنّ والثّقافة. يجب أن ننظر إلى جميع المواد المطبوعة على أنّها وثائق تاريخيّة.”

نهاية مفتوحة:

الأرشيفات هي ذاكرتنا الجماعيّة.
الأرشيفات ليست ماضي، إنّها بالنّسبة إلينا الحاضر والمستقبل.
الأرشيفات بالنّسبة إلينا هي وسيلة لإعادة اكتساب السّيادة على هويّتنا، وسيلة لاستقلالنا الذّاتيّ والاستشفاء.


* من أجل التّوقيع على هذا البيان، قم بكتابة اسمك ومحل إقامتك بالّلغتين العربيّة والإنچليزيّة  في التعليقات، أو قم بإرسال المعلومات هنا.

وقّع على هذا البيان:
محمود الحسيني - مصر
صوفيا علمي - المغرب
أميمة دجاني - فلسطين
كريم فؤاد - مصر
يمان طعمة - لبنان
محمد مصطفى - مصر
سارة العضايلة - الأردن
أريج عطاالله - السعودية
إنجي هشام - مصر
نورهان البنا - مصر
جنزير - أمريكا
هدى أبي فارس - هولندا
دانه الشيّاب - الأردن
ماريا حبيب - لبنان
رأفت علي - هولندا
هيا حلاو - سوريا
فينا زموري - بلجيكا
تِيوَا بارنوسا - ليبيا
ساره صالح - هولندا
كندة غنوم - بلجيكا
احمد فوله - مصر
محمد فرحات - المانيا
مجد الشريف - مصر
علي رأفت - مصر
ندى عبدالله - الامارات
فاي أحمد - السعودية
رندا هادي - الكويت
منى بشير - فلسطين
روي سعاده - لبنان
مقالات
محيي الدين اللباد
Dark Mode

تقاليد جميلة فى الكتاب العربي!

 

 

 

 

 

 

 


مصادر:

صندوق زخارف الطباعة الامريكي هنا
القاموس المحيــــــــط هنا
خزانة الأدب وغاية الأرب هنا